توفيق حنا يكتب: عصر القلق تأليف فتحي خليل

توفيق حنا يكتب: عصر القلق تأليف فتحي خليل
توفيق حنا يكتب: عصر القلق تأليف فتحي خليل

إلى البطل الثائر محمد فريد، الذي عاش مناضلا صادقا في سبيل تحرير مصر من كل ألوان الاحتلال والاستبداد والتخلف والذي عاش بعيدا عن الوطن- مكانا- ولكن عاش الوطن في قلبه وعقله حتى الموت.

كتب فتحي خليلالكاتب المصري- هذا الكتاب عن عصر القلق وعن سلامه موسىهذا الرائد المصري الذي عاش عصر القلق بكل صوره حتى تحول هذا القلق من صورته السلبية إلى صورته الايجابية وهى الثورة.. ثورة 1919

كتب فتحي خليل كتابه هذا عن مصر التي قال عنها كرومر في قمة غروره وسيطرتهأنها لا تستحق غير قليل

بدأ كتابه بالحديث عن الثورة العرابية التي قادها هذا الجندي المصري العظيم احمد عرابي.. هذه الثورة التي رفعت شعارمصر للمصريينوأرادت أن تقيم جمهورية مصر في نهاية القرن التاسع عشرهذا الكتاب يحدثنا عن ملحمة عاشتها مصر وعاشها هذا المصري الذي أحبها كل الحب واخلص لها أعمق الإخلاص وبذل لها عقله وقلبه.. هذا المصري الرائد هو سلامه موسى (1888 – 1958) وعن ثورة 1919 التي انفجرت في التاسع من مارس يقول:

يا ساعات صباح اليوم الرائع، ما الذي حدث على أرض مصر ولم يحفظ لنا التاريخ غير صداه الشاحب في حروف البرقيات والتقارير ودفاتر البوليس، وعبر الذكريات التي اختلسها ذلك الجيل من زحمة حياته ليرويها لنا في حسره وفخر وغموض.

على طريق تلك الساعات المشرقة بشمس مارس انطلق شعب بأسره عماله وفلاحيه، شبابه ونسائه، لا في مدينه ما أو في قرية ما، بل على نطاق الوطن الشامل، من ميادين العاصمة حتى نخاع الكفور المظلمة، دون أن يلقنهم حزب ولا زعيم ولا حتى مغامر جرئ كلمة الثورة في ذلك اليوم، دون أن يحدد لهم احد ميقات انفجارهم الملهم، ودون أن تدعوهم جريده ولا بيان ولا منشور إلى ما يجب عمله..” ويقول سلامه موسى:

يا روعة وقع التاسع من مارس على قلبه وعقله ومستقبله، وما اخطر القضايا التي حسمها في وجدانه، لقد صدق حدسه الفلسفي بالتفاؤل، وهاهم الموثوقون بالحبال، الممتثلون لبطش الاحتلال، ينزعون شرايين الدولة ويحاصرون كتائبها المسلحة، ويتنغمون لدنشواي.. لقد حطموا أوصال الدولة فعلا، وها هي ممددة هامدة، لقد هتفوا للاستقلال فعلا ونادوا بسعد زعيما وسمعتهم السماء نفسها.. هاهي الأمة في ثورة لأن أربعة من أبنائها اعتقلوا..”

يقول سلامه موسى: “لولا دنشواي لما جذبتني السياسةويقول فتحي خليل عن مأساة دنشواي.. وعن يوم شنق زهران في 27 يونيو 1906.. هو ورفاقه:

نحن اليوم نفهم دنشواي بعقولنا، ولكن وقع دنشواي على جيلها كان يجل عن الوصف، ذلك الوقع الذي بعث من الريف الراكد هذا الموال الوطني الذي يحمل معالم هذه المرحلة، بصمات قوتها وضعفها، كما يرث الوليد صفات أمه وأبيه

ويسجل لنا هنا فتحي خليل هذا الموال الذي يحكى مأساة دنشواي والتي انتهت بطرد كرومر من مصر.. بعد حمله شجاعة قادها الزعيم المصري مصطفى كامل:

بعد حكم المحاكم والشاويش والباش

غلايين وسقها كرومر معجبه للباش

اتفرعنت الانجليز بعد ما كانوا اوباش

نزلوا على دنشواي ماخلو نفر ولا اخوه

اللى انشنق انشنق واللى فضل جلدوه

واللى نطق كلمة الحق فى سجنهم ورموه

يوم شنق زهران كانت صعبه وقفاته

امه بتبكى عليه من فوق السطوح واخواته

وكان له أب زى السبع يوم الشنق لم فاته

ولأجل نصر الديانة أتانا مصطفى كامل

راح البطل فى الحال ولاتأناش

عزموه كبار الانجليز الكل ماخلاش

قالوا له طالب ايه يامصطفى كامل فى الحال قوام فيدنا

قالوا له آدى الدوا والقلم.. فى الحال قوام فيدنا

قال انا طالب عزل كرومر م البر.. ختموا له

وطالب مساجين مصر تخرج فى الحال.. خرجوا له

وطالب مال لصاحب الدم.. صرفوا له

ارتد فرحان على استانبول بالمزيكه ضربوا له

رجعوا سقوه.. مات.. ياخساره ياكامل باش

وسلامه موسى لا يعرف متى ولد.. ولكنه يقدر فقط أن مولده كان حول عام 1888... ذلك لان قيد المواليد لم يكن قانونا صارما.. ومات أبوه وهو في الثانية.

ومن عام 1888 حتى عام 1903 كان سلامه موسى قد ولد وفقد أباه ولعب مع أطفال الفلاحين.. ودخل كتاتيب مسلمه ومسيحيه وكانت تقوده إليها أخته الصغرى وصديقه صباه بل وصديقة عمره.. وحفظنعظمك يا أم النوروبعض سور القرآن بدون أن يتعلم قراءه ولا كتابه.

كان سلامه موسى يعانى من هموم أربعه.. المدرسة بعذابها والحركة الوطنية التي كانت تحذف المسيحيين من قائمة النضال الوطني (حتى قامت ثورة 1919، ثورة كل المصريين.. مسلمين وأقباط) والهم الثالث هو المجتمع المسيحي الذي كان قد أغلق على نفسه باب الهموم العثمانية الماضية وحذف الحركة الوطنية من وجدانه الاجتماعي وتفاءل بالاحتلال أكثر مما تفاءل بحركة الاستقلال وكان همه الرابع الاسره التي كانت بحكم شرائع القرون الوسطى تحاول أن تحرمه من ماله.

هكذا يسجل لنا فتحي خليل هموم سلامه موسى ثم أضيف:

ولكنه كان طموحا وطموحه هو الذي أنقذه من اليأس، وهو الذي فتح عينيه على بصيص من النور كان ينبعث من ثلاث قوى يعقوب صروف وفرح انطون ولطفي السيد

رحل سلامه موسى إلى القاهرة وعمره إذّْ ذاك ست عشرة سنه ليكمل دراسته بعد أن نال شهادة الابتدائية من الزقازيق.. حيث ولد، ويصف لنا فتحي خليل جو القاهرة السياسي والثقافي:

كان هناك موت وميلاد، حركه كون وفساد، وصيرورة ملفته للانتباه في الفترة التي دخل فيها سلامه موسى القاهرة.

كان الكواكبي قد مات عام 1902 ولكن تراثه الثوري كان يقرأ بنهم، وكان محمد عبده يغالب عامه الأخير، ولكن مدرسته بقيادة لطفي السيد تنمو لتتحول إلى حزب هو حزب الأمة على المبادئ الدستورية، كذلك كان مصطفى كامل وقاسم أمين والمويلحى وعلى يوسف إما يقضون شهورهم الاخيره أو سنواتهم المعدودة على هذا المسرح الصاخب ويبعثون بآخر ومضاتهم..”

ولكنه يقرر متفائلاً ومبشراً بفجر يوم جديد:

ولكن الميلاد كان وفيرا، فمصر كانت حبلى بطه حسين وسلامه موسى وأبو شادي والعقاد ومحمود عزمي وهيكل ومنصور فهمي والحكيم والمازني ومصطفى وعلى عبد الرازق واحمد أمين (مالك الحزين) ومئات الأسماء التي لمعت بعد ذلك في سماء العلوم والآداب والفنون والسياسة عدا من كانوا يدبون على المسرح بخطى ثابتة حين ذاك مثل شوقي وحافظ

ولكنفي الفترة التي دخل فيها سلامه موسى معترك القاهرة، كانت بؤرة تنعكس عليها صورة مصر الثورية المقدمة على معارك فاصله غير مرئية.. تلك المعارك التي بدأت بصرخة ألم دفين على شهداء دنشواي ثم يقظة المصدوم من حلمه على موت مصطفى كامل التي ستنقلب إلى زلزال مروع على اثر اعتقال أربعة من رجال معتدلين كانوا يطالبون بالحكم الذاتي لمصر في مارس 1919..” وعن هذه المرحلة في حياة سلامه موسى:

مرحلة افتخار وقلق وحمل ثوري تفاعل فيها ديكنز وشكسبير وشو وويلز مع روسو وفولتير وموليير مع ابن خلدون والمصري والأفغاني والطهطاوي والأستاذ الإمام وسائر القائمة العربية التي ترقد من قرون بالألوف في دكاكين الوراقين بالأزهر وبيوت الطبقة الوسطى الناشئةويقول فتحي خليل أيضا:

في القاهرة عثر سلامه موسى على كنوز سليمان: المقتطف والجامعة والهلال واللواء، كما عرف المنار والمؤيد ومصباح الشرق، فأي هدير واى صراع بين الأضداد، وكم بدت له دروس مدرسة التوفيقية قشورا وهشيما إذا قورنت بما يذيعه المعلوف وصروف و شبلي شميل وفرح انطون بين حلقات المثقفين أبناء الموظفين والأعيان والتجار..”

ويحدثنا عن علاقة سلامه موسى بشبلي شميل:

كانت علاقته بشبلي شميل قد توطدت، فقد كان شبلي شميل في اندفاع المراهقين بتعصب لديانته البشرية ويتهجم بوقاحة على الغيبيات، فيا لها من صداقه تجمع بين شيخ في السبعين وشاب في الخامسة والعشرين، وناقشا معا فكرة مجله أسبوعيه، فالوقت كان في رأيهما لا يسمح بالتلكؤ، والصحيفة الشهرية أصبحت عجوزا تتوكأ في عصر يقتضى الوثب والقفز.

وفى فجر عام 1914 صدرتالمستقبلويا لها من بداية ويا له من عام..”

ويحدثنا فتحي خليل بأسلوبه المجنح عن سلامه موسى والمستقبل”..

الخيال الساحر الذي كان يجول في خاطره بعد أن عمل أربعة شهور فياللواءيتحقق الآن.. إن له قلبه وأفكاره وصحيفته .. كانتالمستقبلتدعو دعوه عصريه فيها طفولة التكوين، جريئة، صريحة، وقحة... على صفحاتها كان شبلي شميل يعربد نثرا رصينا ويدعو بالشعر إلى اعتناق التطور، وكان سلامه موسى يكتب ويكتب فإن في رأسه الكثير مما يريد أن يقول.. وينشر حديثه معميفيه من المرح والتدليل مايثير الريبة حول السائل والمسئول.

ثم يقول فتحي خليل فيما يشبه الرثاء:

ولكن هذا النجم الذي خفق في عصر الظلمات أربعة شهور أطلق خلالها ستة عشر شهاباً سرعان ما أخمدته الأحداث الجسام

ولكنالمستقبلعادت إلى الحياة الآن وأصبحت اسما لدارالمستقبلالتي أنشأها رءوف سلامه موسى في الاسكندرية.

يقول سلامه موسى:

أن كان جاليليو قد انزل الإنسان من عليائه عندما أعلن أن الأرض ليست مركز الكون، بل كوكبا صغيرا يدور حول شمس ضائعة وسط ملايين الشموس، فلقد أعادكم داروين إلى عرشكم، لأنكم ارتفعتم من حضيض الطبيعة إلى عليائها، وبهذه الكرامة يكون الإنسان تاج التطور، ويكون من حقه أن يحكم ويدير العالم، بل عليه أن يوجد بشريه جديدة، بشريه ارقي

 ويبدو تأثره بفولتير وشو وهو يقول:

العالم قريتنا الكبرى، بل حديقتنا، فلنعكف على تنظيمها وتجميلها ولنحلم حلما مداه ألف عام

ونلمس لونا من ألوان التصوف وهو يقول:

أن الوجود كله وحدة واحدة، فالإنسان ابن عم أشجار الصنوبر وأحجار الصخر

وعن العلم يقول وهنا نلمس أستاذيته لنجيب محفوظ في حماسه ودعوته المستقبلية:

بسلطان العلم يزداد سلطانكم على الأرض والماء والسماء فتعلموا.

بسلطانه تنمحي الأمراض وتزدهر نبات الأرض وينقرض الجوع، كما انقرض الديناصور من مليون سنه

ثم يقول فتحي خليل أخيرا:

حرروا اختنا التي أدارت الطاحون كل تلك القرون.. حرروا سجينة الدار.. حرروا المرأة.. فلتحرر الأرض من المحتل والضمير من ظلمات القرون.. فليتحرر قدس الأقداس..عقل الإنسان

ويقول فتحي خليل عن رحلة سلامه موسى إلى لندن:

عندما رحل سلامه موسى إلى لندن كان داروين قد قال له: هذا هو الماضي.

وعندما عاد كان الفابيون قد قالوا له: هذا هو المستقبلويقول أيضاكان في العشرين من عمره، عندما رحل إلى لندن، وجذبته أعذب الموجات وأشدها ضجة، ذلك أن لندن كانت تكافح العصر الفيكتوري، معتقداته وتقاليده وسياسته، وكانت حركة الفابين وحركة العقليين والحركة النسوية هي ألمع موجات البحر الذي يصطدم بصخور لندن الإمبراطورية ويبعث صدامها هديرا وزئيرا

وعن زيارته لباريس يحدثنا فتحي خليل:

اغرب ما فاجأه في باريس أن الناس كانوا يسألونه بشغف عن تاريخ مصر القديم، مصر الفراعنة، وهكذا اكتشف، على أرض أجنبيه، أن لوطنه تاريخا، يجهله هو ويعرفه الغرباء. كان رأيه الحاسم أن مصر صحراء ليس فيها شئ يدرس، فاكتشف أن أوربا مشغولة بدراسة وطنه، فكان ذلك الكشف من أسباب عودته السريعة.. هكذا عاد بعد عام واحد لا إلى القاهرة ولا إلى الزقازيق بل إلى الصعيد.. إلى الصعيد، اى إلى الآثار، حيث قضى شهرين، كانا بمثابة بعثه إلى الماضي.. وكم كان الماضي مجيدا مهيبا

وكل مصري في أمس الحاجة إلى القيام بهذه البعثة إلى الماضي.. ذلك أن هذا الماضي هو الأساس الذي يقوم عليه الحاضر.. وينطلق المستقبل.. وكم هي صادقه هذه النصيحة الشعبيةمن فات قديمه تاه”. ولأن هذا الماضيكما يقرر سلامه موسى- مجيد ومهيب.

وعن نشأة الجامعة المصرية.. هذه الافتتاحية الرائعة للقرن العشرين.. يقول فتحي خليل:

في 1906 بدأت الحركة الوطنية بجمع تبرعات لإنشاء جامعه أهليه.. وأدرك كرومر أن زحف الماكرين قد بدأ. وقرر أن يبدأ زحفا مضادا.. طرح على الآفاق هذا السؤال: التعليم العام أم التعليم الجامعي؟

وبدأت حملة تبرعات كاذبة لإنشاء الكتاتيب، وهى عنده التعليم العام، فلما انتصر الوطنيون وأسسوا الجامعة توقفت حملة الكتاتيب الزائفة وقد حولها العمد إلى اصطبلات ومخازن تبن وعلف

واختم هذه الكلمة بكلمات فتحي خليل عن عصر القلق وعن سلامه موسى:

هو ابن القلق الثوري، وهذا هو مفتاح شخصيته، تكون جنينه وهو يتلقى انطباعات هذا العصر الحادة .. صورة الخديوي وهو يزور مدرسته طفلا، وصورة الزعيم المحطم المهموم الذي سحقه الاحتلال والغدر، وصورة كرومر وهو ينزل من عربته على كاهل خادم مصري يحطه على الأرض تجبرا وكبرا، وصورة الثورة الفرنسية ينقلها فرح انطون، وصورة الثورة العلمية ينقلها صروف وداروين وسبنسر ولامارك

قرأت هذا الكتاب أكثر من مرة.. وفى كل مرة اشعر وكأني أريد أن أعود إليه مره أخرى.. ذلك لأن فتحي خليل كتبه بكل الحماس والصدق والحرارة التي يمتلئ بها قلب بحب مصر و بوعى مستنير وعقل مستقبلي متفائل.