حسني حنا يكتب : مواقف وطنية وإنسانية

حسني حنا يكتب : مواقف وطنية وإنسانية
حسني حنا يكتب : مواقف وطنية وإنسانية
 
 
" لن يتم تدمير العالم عن طريق أولئك الذين يقومون بأفعال شيطانية ، بل من قبل أولئك الذين يراقبونهم ولا يفعلون شيئاً " .
 
*Albert Einstien
 
 
منذ  أواخر القرن الماضي ، ظهرت في البلدان العربية والعالم موجات جديدة من المتعصبين والمتطرفين الدينيين الذين اعتمدوا في نشر أفكارهم ومعتقداتهم على العنف وفرضها بالقوة التي تصل إلى حد القتل . وما يرافق ذلك من خراب ودمار، إضافة إلى تكفير الآخرين المختلفين. ومعاداة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومحاربة الأقليات وتهميشها .
لكن بالمقابل نجد صفحات مشرقة تتحدث عن الالفة والمحبة والعيش المشترك بين أبناء الوطن الواحد ، تناثرت أخبارها في بطون الكتب وذاكرة المجتمع . وقد رأينا أن نقدم ملامح من تلك الأخبار والصور عسى أن نجد فيها بعض العزاء والسلوان، عما جرى ويجري في هذا الزمن الرديء، الذي بات فيه القتل على الهوية شيئا مألوفاً ، وما يحصل في سوريا اليوم من أعمال وحشية ضد الأقليات وخاصة العلويين والمسيحيين ، هو خير مثال على ما نقول، ونبدأ مقالنا هذا من الحديث عن الجذور ...
 
في العهد الأموي
لا يزال حكم الأمويين لدى المسيحيين في سوريا ، حلماً مستعذباً ،وعطراً فواحاً نادراً .. وحتى نهاية الحقبة الأموية كان السواد الأعظم من سكان سوريا مازال مسيحياً.
تزوج معاوية مؤسس الدولة الأموية من ( ميسون ) المسيحية التي كانت قبيلتها تسكن في البادية السورية، بجوار مدينة تدمر، وهم أم ابنه وخليفته ( يزيد ) .... وقد عّين معاوية طبيبه ( ابن أثال / عاملاً على ولاية حمص، وهو تعيين منقطع النظير لمسيحي في التاريخ الاسلامي (اليعقوبي ج 2 ص 265). وكان شاعر البلاط الأموي هو (الأخطل) من قبيلة تغلب المسيحية ... وفي مدينة (الرُّها) ساعد معاوية على ترميم كنيسة هدمها الزلزال (356.Theophanes, p ) .
وكان يزيد بن معاوية، قد نشأ في كنف امه في البادية، وكان وهو في دمشق يخالط المسيحيين، وكان من بين رفاقه المفضلين القديس يوحنا الدمشقي (675 - 749 ) وهو يعد علماني ..... وقد أرسل الخليفة هشام بن عبد الملك أولاده الى (دير الرصافة ) قرب مدينة الرقة، من أجل تعليمهم وتربيتهم .
 
في العهد العباسي
وجد العباسيون في السريان العنصر المثقف و الذي تحتاجه دوائر الدولة. وقد أتاح السريان للعرب المسلمين الاطلاع على الفلسفة و علوم الغرب ، لاسيما اليونانية ، التي ترجموها إلى اللغة العربية ، وقد عُرف عن الخليفة ( المهدي) التعاطف مع المسيحيين ... وعلى العموم كان العهد العباسي الأول عهد تسامح ، على عكس العهد العباسي الثاني!..
 ويحسن هنا نقل ما كتبه (الجاحظ ) مبيّناً بعض فضائل المسيحيين ، وهو يقول فيهم "وعطف قلوب العرب على النصارى ، الملك الذي كان فيهم .. و أن فيهم عرباً كثيرة، وأن النصارى متكلمين وأطباء ومنجمين ..."  وفي مكان آخر يقول الجاحظ : " ومما عظمهم في قلوب العوام أن منهم كتاب السلاطين والأطباء والأشراف والعطارين والصيارفة (رسائل الجاحظ ج3 ص 313 ومابعدها)
 
 
 
الأوزاعي .. الامام المنصف
اشتدت نقمة المسيحيين في لبنان، بسبب التدابير الصارمة التي فرضت عليهم في زمن الخليفة العباسي (المتوكل ) والتمييز العنصري ضدهم . فقاموا بحركة عصيان بين عامي (759 - 760) وقد عمد محمد الوالي العباسي (صالح بن علي ) الى محاربتهم والانتقام منهم ، فشرّد أهل القرى الجبلية. وقتل العديد من سكانها ، مع أن الكثيرين منهم لم يساهموا بالثورة. ونثرهم في المناطق السورية على اختلافها (ابن عساکر : ج 5 ص 341).
في ذلك الحين عاش (الامام الأوزاعي) الفقيه المشهور في بعلبك وبيروت ، وقد قيل عنه أنه (أمام الشام) .. وهو الذي عارض الامام (مالك) والامام (أبا حنيفة) واستنكر ما أقّراه بحق أهل الذمّة، نظير قطع أشجارهم ، وهدم كنائسهم وتخريب بيوتهم ( الطبري : اختلاف الفقهاء ص 121 - 141 ) .
رفع الأوزاعي احتجاجاً إلى الحاكم جاء فيه :
"وقد كان من إجلاء أهل الذمّة من جبل ابنان ، حمق لم يكن ممالئاً لمن خرج على خروجه ، ممن قتلت بعضهم، ورددت باقيهم إلى قراهم ما قد علمت ، فكيف تؤخذ عامّة بذنوب خاصة حتى يخرجوا من ديارهم وأموالهم (ممتلكاتهم ) وحكم الله تعالى أن لاتزر وازرة آخرى. وهو احق ما وقف عنده واقتدي به، وأحق الوصايا أن تحفظ وترى وصية رسول الله (ص) فإنه قال : " من ظلم معاهداً ، وكلفه فوق طاقته ، فأنا حجيجه " ( البلاذري : حق (162) .
 
رفض الانتقام من نصارى الشام
يذكر المؤرخ محمد كرد على أنه : " حين أرادت الدولة العثمانية، أن تنتقم من نصارى الشام ، بل من النصارى في أنحاء الدولة العثمانية ، لثورة اليونان عليها، ومطالبتها بالاستقلال بعد ثورة الموره (1829 ) وجزائر البحر المتوسط ، فأمرت والي دمشق أن يقتل المفسدين من كبراء طائفة الروم.
فعقد مجلساً من أعيان دمشق، وتلا آمر الآستانة على مسامعهم ، فكان جوابهم : أنه لا يوجد بين النصارى عندنا المفسدون ، وجميعهم ذمّيون سالكون بشروط الذمة ، فلا يجوز أذيتهم، لهم مالنا وعليهم ما علينا ، وأن الرسول عليه السلام أوصى بالذميين وقال : " من أذى ذمياً كنت خصمه يوم القيامة " ونحن لا نقدر أن نتحمل هذه التبعة " وكتبوا محضراً للدولة بحسن سلوك نصارى الأيالة وطاعتهم . ودفعهم المرتبات الأميرية، وأنهم يستحقّون حسن الرعاية والمرحمة من السلطنة السنية " ...
ويتساءل محمد كرد علي في النهاية : ..لعمري أي علاقة للثائرين في جزائر البحر والموره ، مع الآمنين من رعايا الشام ؟!.. فقد أبان عقلاء دمشق إذ ذاك، عن رأي سديد، لكن لا ندري إذا كان رأيهم راق لدى ولاة الأمر في الآستانة (محمد كرد علي : خطط الشام جـ3 ص39-38)
 
مذبحة ومشق 1860
بعد قضاء الفرنسيين على ثورة الجزائر، بقيادة الأميرعبد القادرالجزائري تمّ أسره ، ونقله الى باريس، ولما منعه الفرنسيون من العودة إلى الجزائر، سمحوا له بالاقامة في دمشق، وقد لحق به عدد من أتباعه ...
وبعد أربعة أعوام من استقراره بدمشق ، حدثت فتنة في سوريا عام (1860) شجع عليها العثمانيون، واندلعت أحداث طائفية دامية ضد المسيحيين في دمشق ، الذين كانت نسبتهم تقدّر بربع سكان المدينة.
وتعرض المسيحيون للقتل والحرق والنهب والتدمير في آن واحد !... 
وبعد أن وصلت الأمور الى هذا الحدّ الخطير ، قام الأميرعبد القادر الجزائري بحماية الآلاف من المسيحيين، وإنقاذ أرواحهم ، بواسطة ما كان لديه من فرسان ، كانوا يقدرون بألف فارس .. وكان يخاطب المتعصبين القتلة بقوله : " تباً لكم ، أهكذا تُعزّون نبيكم ، والله لن أسلمكم واحداً منهم .. إنهم اخوتي .." وقد ساهم العديد من المسلمين الشرفاء في حماية أعداد من المسيحيين في بيوتهم ، وكذلك فعل أهالي حي الميدان .. ونظراً لقيام الأمير عبد القادر بهذا الفعل النبيل ، فقد أهدته العديد من الدول أرفع الأوسمة ! ..
ولعل احداث دمشق في عالم (1860) التي انتقلت إليها من لبنان ، والتي راح ضحيتها ما يقارب عشرة آلاف إنسان ، إضافة إلى هجرة الآلاف الى لبنان وأوروبا، ما زالت تؤرق العديد من الكتاب والباحثين العرب والأجانب، خصوصاً لما لها من تأثير في تغيير بنية المنطقة سياسياً واجتماعياً ، فقد كانت من أهم أسباب أفول طبقة (سياسية - دينية) حافظة على موقعها لقرون ، لحساب طبقة جديدة غير دينية، أمسكت زمام الأمور بدمشق، والتي قُدّر لها أن تكون الأساس في بنية الثورة العربية الكبرى للتحرر من الحكم العثماني عام (1916). 
 
والي حلب يتمرد على السلطنة
في مطلع عام (1915) طلبت الدولة العثمانية من جميع المحافظين جمع المواطنين الأرمن الذين يخضعون لولاياتهم وإعدامهم ؟! ...
لكن محافظ حلب ( محمد جلال بك) قرر أن لا يترك مواطني محافظته، يلقون المصير الذي قررته الدولة. وأرسل الى الحكومة التركية التماساً ، بأن تترك الأرمن في محافظته، لأنهم لا يحدثون أي شغب .. وحين فشلت وساطته ، أعلن عصيان لأوامر الحكومة ، وقام بنفسه بتأمين المأوى والملجأ، والمساعدات الممكنة للمحتاجين من الأرمن داخل حدود محافظة حلب، وتشير كتب التاريخ ، إلى أنه ساهم في إنقاذ حياة الالآف..
وفي شهر حزيران - يونيو من العام نفسه ، جرى إقصاء جلال بك عن إدارة محافظة حلب ! ... 
 
 
بورسعيد تساعد الأرمن
أثناء حملة الابادة الجماعية للأرمن التي نفذها العثمانيون ، تلقى الأرمن المقيمون في جبال الأمانوس في لواء اسكندرون، أمرأ رسمياً من الحكومة التركية بالتهجير القسري من مدنهم وقراهم ... وقد تجّمع الأرمن في منطقة جبل موسى، أعلى جبال المنطقة، وتمكنوا من إحباط الإعتداءات التركية المتكررة لمدة (53) يوماً . وقد تمكنت سفن الحلفاء في البحر المتوسط من نقل الناجين، في الوقت الذي بدأت فيه ذخيرتهم ، وامداداتهم الغذائية بالنفاذ ..
كان عددهم يقارب (4200) من الرجال والنساء والأطفال ، نقلتهم السفن إلى ميناء بورسعيد . وقد استقبلهم السكان، وقدّموا لهم المساعدات . وقد تبرع المصريون من المسلمين والاقباط، لصالح المشردين من الأرمن، واستقبلهم البعض في بيوتهم. وقد ندّد بهذه المذابح شيخ الجامع الأزهر، والعديد من كتاب مصر وأدبائها ...
 
البطريرك غريغوريوس حداد
أطلق الأتراك العثمانيونى على الحملة العسكرية الفاشلة، التي ارسلوها في شتاء عام (1915) لاحتلال قناة السويس، بقيادة (جمال باشا) اسم (سفر برلك) وقد بات هذا الاسم يطلق على مرحلة عصيبة من تاريخ بلاد الشام ، حدثت فيها المجاعات والأوبئة ، التي قضت على الكثير من البشر .....
في تلك الأيام فتحت البطريركية المسيحية الأرثوذكسية بدمشق أبوابها، لإطعام الجياع ، بغض النظر عن الدين والمذهب ، وقد رهن البطريرك (غريغوريوس الرابع حداد) أوقاف البطريركية والأديرة كلها للاستدانة، و باع مقتنيات وأواني الكنائس الذهبية والفضية ، التي تحكي تراث البطريركية الروحي ، وجذورها العميقة في بلاد الشام .....
وكان البطريرك يملك صليباً من الماس ، كان قيصر روسيا (نيقولا الثاني) قد أهداه إليه عالم (1913) قد رهن الصليب بألف ليرة عثمانية ، فعرف بالأمر أحد أغنياء المسلمين الذي فكّ الرهن ، وأعاد الصليب الى صاحبه لكن البطريرك عاد فباعه ، كي ينفق ثمنه على المحتاجين!...
... فيما بعد قام البطريرك التالي ( الكسندروس طحان) ببيع تلك الأوقاف في سوريا ولبنان ، كي يفي الديون، وفوائدها المرتفعة ، ومن جراء ذلك خسرت البطريركية كل ممتلكاتها، لكنها ضربت أروع الأمثلة في الاخاء والوطنية .
ومن أجل متابعة اهتمامه بالقضايا الوطنية ، قاد البطريرك (غريغوريوس حداد) الصف الوطني المسيحي ، مع جلالة الشريف حسين بن علي، وابنه الأمير فيصل ، للتحرر من الحكم العثماني المستبد ، وبايع الأمير فيصل ملكاً على سوريا في عام (1920) .
وبعد معركة ميسلون (24 تموز 1920) ودخول الفرنسيين إلى دمشق، قرر الملك فيصل مغادرة سوريا، تحت ضغط الفرنسيين، وكان البطريرك هو الوحيد بين كبار الشخصيات الذي ودّع الملك فيصل في محطة قطار (القدم)!..
تأثر الملك فيصل لما قال له البطريرك : " إن هذه اليد التي بايعتك، سوف تبقى وفية لك إلى الأبد" ... حاول فيصل تقبيل يد البطريرك، لكن البطريرك سحب يده، وقبله في جبينه ... وعند وفاة البطريرك عام (1928) أقيم له حفل تأبين رسمي من قبل الحكومة السورية ، وأرسل الملك فيصل الذي صار ملكاً على العراق ، مائة فارس على الخيل للمشاركة هي التشييع .... هذا ما سجله التاريخ، لكن الكثيرين لا يقرأون ؟!...
 
 
 يوم أبيض في تاريخ أنطاكيا
في مطلع عام (1937) عندما جاء أحد أعضاء لجنة المراقبة الدولية الى مدينة أنطاكيا السورية ، ليحقق في دعوى الأتراك المطالبة بضم لواء اسكندرون، وفصله عن سوريا ... أغلق الأتراك المساجد يوم الجمعة، لمنع الناس من التجمع للصلاة في المساجد ، ثم الانطلاق بالمظاهرات أمام اللجنة الدولية تأكيدا لعروبة اللواء ....
عندها ما كان من المسيحيين السوريين في مدينة أنطاكيا، إلا أن فتحوا خلال ساعة واحدة أبواب كنائسهم ، أمام المصلين من المسلمين السوريين ... وصلى المسلمون لأول مرة صلاة الجمعة في الكنائس ، الى جانب المسيحيين، ووقف خطيب المسلمين في هيكل المسيح يتلو القرآن ، وصعد مؤذّنهم الى قبه الناقوس ليرفع الأذان ..... 
كان هذا الموقف المسيحي التلقائي والعفوي ، أروع حادثة وطنية ، في تاريخ النضال السوري من أجل عروبة لواء اسكندرون، والذي قوّى في نفوس السوريين الرابطة الوطنية في ظل الاسلام والمسيحية .... (جريدة القبس الدمشقية 17 يناير 1937) .
ان المسيحية لم تصمد على مدى القرون بفضل حمل السلاح ، ولا باللجوء إلى حماية أجنبية، وإنما بقيم القدوة والمثال ، التي جسّدتها إيماناً وتعليماً ومجتمعاً وثقافة، وبالانفتاح على الآخر، وترسيخ مفهوم المواطنة للجميع، والدفاع عن مصالح الوطن.