على مر العصور، كانت مصر أرضًا عصية على الغزاة، ومقبرة لكل من حاول النيل منها. لم تكن مجرد ساحة للمعارك، بل كانت مهد الحضارات، وقلب المقاومة، وحصنًا منيعًا تحطمت على أبوابه جيوش الطامعين. كل من حاول الاعتداء عليها لقي المصير نفسه، من الهكسوس إلى المغول، ومن شعوب البحر المتوسط إلى التتار، ومن اللوبيين إلى البريطانيين الذين انهارت إمبراطوريتهم التي لا تغيب عنها الشمس بعدما اصطدمت بصمود المصريين.
يعتقد الكثيرون أن جيش قمبيز الثاني، ملك الفرس، قد اختفى في صحراء مصر خلال حملته العسكرية عام 525 قبل الميلاد، لكن الحقيقة أبعد من مجرد تلاشي جيش في الرمال. لم يكن الفرس ضحية الطبيعة فقط، بل كانوا فريسة لمقاومة بطولية قادها الملك المصري بيتوباستيس الثالث، الذي ألحق هزيمة ساحقة بجيش قمبيز، ليؤكد مجددًا أن مصر ليست أرضًا يسهل احتلالها.
عندما دخل قمبيز بجيشه الجرار إلى الصحراء المصرية، كان يواجه تحديات طبيعية قاسية من نقص المياه وحرارة الشمس الحارقة، لكن التحدي الأعظم جاء من المصريين أنفسهم. أدرك بيتوباستيس الثالث أن الجيش الفارسي في وضع ضعيف، فاستغل معرفته الجيدة بالصحراء ونصب كمينًا محكمًا. وجد الفرس أنفسهم محاصرين بين الرمال التي تفتك بهم، والجيش المصري الذي يشن عليهم ضربات قاضية. كانت النتيجة كارثية بالنسبة للفرس: هُزم الجيش بالكامل، ولم يخرج أحد من الصحراء ليحكي ما جرى.
لم يكن قمبيز الأول ولا الأخير الذي حاول السيطرة على مصر وانتهى بالفشل. التاريخ المصري مليء بقصص الغزاة الذين ظنوا أنهم قادرون على إخضاعها، لكنهم خرجوا منها مهزومين أو لم يخرجوا أبدًا. الهكسوس، الذين احتلوا مصر لفترة، انتهوا بطردهم على يد أحمس الأول. شعوب البحر المتوسط، الذين سعوا للسيطرة عليها، تحطمت أساطيلهم أمام صلابة المصريين. اللوبيون فشلوا في فرض سيطرتهم رغم محاولاتهم المتكررة. المغول والتتار، الذين اجتاحوا العالم، لم يجدوا لهم موطئ قدم في مصر، فقد تصدى لهم الجيش المصري بقيادة سيف الدين قطز، وألحق بهم هزيمة ساحقة في عين جالوت. بريطانيا العظمى، التي كانت تتباهى بأنها إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، شهدت بداية انهيارها عندما واجهت المقاومة المصرية، وانتهى احتلالها لمصر لتسقط الإمبراطورية العظمى تدريجيًا.
ما الذي يجعل مصر قادرة على التصدي لكل هذه الغزوات؟ ليست القوة العسكرية وحدها هي السر، بل الروح المصرية التي لا تنكسر، والهوية العريقة التي تمتد منذ آلاف السنين. مصر لم تكن مجرد دولة، بل حضارة متجذرة، وشعبًا يملك إرادة صلبة، يدافع عن أرضه بإيمان ووعي.
لم تكن مقاومة مصر مجرد معارك عسكرية، بل كانت تعبيرًا عن هوية راسخة لا تقبل الخضوع. عبر التاريخ، كانت مصر قلب الحضارة الإنسانية وحصنها المنيع ضد الطغاة. كل من حاول غزوها لم يواجه جيشًا فحسب، بل واجه أمة بأكملها، تدافع عن وجودها بدمائها وأرواحها.
التاريخ لا يكذب، والحقائق لا تمحى: مصر ليست أرضًا يسهل احتلالها، بل مقبرة لكل من تجرأ على الاقتراب منها. إنها ليست مجرد موقع جغرافي، بل كيان خالد لا يعرف الهزيمة، وستبقى دائمًا مقبرة الغزاة.

