"ورأيتها بلذة واسعة الأفنية ، جامعة الأبنية ،في كل دار بستان ، وفي كلّ قطر بنيان" .
*عماد الدين الأصفهاني
يُشكل الساحل السوري وحدة تاريخية ضمن منطقة الهلال الخصيب The fertile Crescent. وقد قامت وازدهرت على هذا الساحل مدن عديدة في الحقبة الكنعانية من تاريخ سوريا، وفي الحقبتين اليونانية والرومانية. ومن أهم هذه المدن في الحقبتين الأخيرتين مدينة أنطاكيا وشقيقاتها الثلاث سلوقية (السويدية) واللاذقية وأفاميا... ولن نتحدث اليوم عن هذه المدن ، التي تبوأت مكانة هامة في العهود المسيحية من تاريخ سوريا ، وتقتصر في حديثنا على مدينة (اللاذقية Laodicée) .
مدينة اللاذقية
تقع مدينة اللاذقية في القسم الشمالي من الساحل الشرقي للبحر المتوسط، مقابل اقصى طرف لجزيرة قبرص ،وقد كان ، لها إسهام كبير في الحضارة السورية على البحر المتوسط.
انشأ هذه المدينة الامبراطور السلوقي سلوقُس نيكاتور Seleucus nicator حوالي عام (310ق.م) على انقاض مدينة كنعانية قديمة كانت تسمى (رامیتا ).
اللاذقية في العصر المسيحي
بلغت المسيحية مدينة اللاذقية منذ مطلع تاريخها، وتحديداً في منتصف القرن الأولى للميلاد ، على يد المبشرين الأوائل. وقد مرّ بها القديسان بطرس وبولس في طريقها إلى أنطاكيا، وبشّرا بها ، وكان القدّيس (لوقيوس اللاذقي Lucian e ) المذكور في سفر أعمال الرُسُل
أول ساقفتها، وهو أحد تلاميذ بولس الرسول St.paul وقد ورد ذكره في رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل روسية. (21:16) والذي كان اول أسقف على اللاذقية ، في أواسط القرن الأول للميلاد، حيث رعى رعيته بحكمة ورقد بسلام .
كما اشتهر في اللاذقية القديسين (أبوليناريوس اللاذقي) ... Apolinatus of Latakia ) صاحب بدعة الطبيعة الروحية الواحدة للمسيح.
وقد أعطت اللاذقية التي كانت معقلاً قوياً للمسيحية في العهود المسيحية المبكرة - شهداء كثيرين مين في عهود الاظطهاد العنيفة ، وعظم شأنها، حيث افتتحت فيها مدرسة يونانية علم فيها أبوليناريوس أسقف اللاذقية
وفي العهد البيزنطي. عرفت اللاذقية نهضة واسعة ، وتأثرت طقساً وادباً بكنيسة القسطنطينية اليونانية، والمذهب الارثوذكسي. و قد آثر كثيرون من المسيحيين الأرثوذكس السكن في السواحل ، على الانتشار في الداخل.
اللاذقية أسقفية
مدينة اللاذقية التي ذكرت في الانجيل في سفر أعمال الرسل تقع في بلاد الاناضول ، وللتمييز سُميّت لاذقية سوريا باسم (اللاذقية على البحر).
ورُقيت (لاذقية سوريا) الى رتبة اسقفية في ولاية سوريا الأولى وعاصمتها مدينة انطاكيا.
وفي سنة (429) رُفعت اللاذقية الى رتبة (متروبوليتية) مستقلة، تابعة لسلطة بطريرك أنطاكيا ، ولما تداعت مباني اللاذقية بفعل الزلازل التي تعرضت لها ، جدد الامبراطور البيزنطي ( جوستنيان ) مباني هذه المدينة ، وفصلها عن انطاكيا
أساقفة اللاذقية
سبق أن ذكرنا أن القديس الرسولي (لوقيانوس اللاذقي) الذي ورد ذكره في رسالة القديس بولس إلى أهل رومية ( 16 : 21) كان أول أسقف على اللاذقية.
وجاء في تاريخ (أوسابيوس القيصري Eusebius ) المؤرخ الكنسي ( 260 - 339 ) أسماء ستة أساقفة لكرسي اللاذقية ، في الحقبة السالفة لإنعقاد مجمع( نيقية Nicaea ) المسكوني الأول في عام (325) الذي حضره نحو (250) اسقفاً ، كما حضره الامبراطور البيزنطي قسطنطين الكبير.
المسيحية في اللاذقية في عيون الآخرين.
بعد دخول العرب إلى سوريا ، وسقوط مدينة دمشق بأيديهم في أيلول من عام (635) كان جلّ اهتمام مورخيهم ينصب على أخبار الفتوحات والغنائم والصراع على السلطة . . و تمّ إهمال ذكر المسيحيين وشؤونهم إهمالاً يكاد أن يكون تاماً .
إضافة الى تهميشهم، وعدم إشراكهم بالسلطة ، ولم يرى العرب فيهم الا دافعين للجزية وخراج الأرض ، ولهذا باتت المعلومات عنهم شحيحة ، واستمر الأمر على هذا المنوال في العهود التالية ، مثل عهد المماليك والعهد العثماني .
وقد وجدنا العزاء في كتابات الرحالة والجغرافيين والمؤرخين والمستشرقين الأوروبيين ، الذين زاروا سوريا و الشرق خلال القرون الأربعة الأخيرة. ففي كتاباتهم ومؤلفاتهم مقاطع هامة ومشوقة عن سوريا، ويمكن دون أدنى شك اذا ما دُرست دراسة منهجية، أن تكون مادة وثائقية في المقام الأول من الأهمية، خاصة إذا أردنا تتبع تاريخ بلادنا على امتداد العصر العثماني .
لقد كان عدد أولئك الرحالة وسواهم كبيراً، وما جاء عندهم من معلومات كان غزيراً ، وسوف نقدم هنا ملامح من تلك الكتابات عند العرب والاوروبين فيما يخصّ المسيحيين.
قدم الشاعرابو العلاء المعري الى مدينة اللاذقية نحو عام (1001) ونزل في (دير الفاروس) حيث التقى برهبانه و عاش بينهم. وكانت اللاذقية في ذلك الحين ، تحت حكم البيزنطيين منذ عام (975) إذ استعادها من حكم العرب الامبراطور البيزنطي ( يوحنا تزيمسكس) ويؤكد الدكتور (طه حسين) أن المعري تلقن في هذا الدير الفلسفة اليونانية ومبادئ الديانتين اليهودية والمسحية ، ومن اشعاره :
في اللاذقية ضجّةُ ما بين أحمد والمسيح
هذا بناقوس يدقّ وذا بمئذنة يصيح
كل يعُظّم دينه ياليت شعري ما الصحيح !..
عماد الدين الأصفهاني 1188
هو الكاتب والمؤرخ الأنيق الأسلوب ، الذي رافق صلاح الدين الأيوبي ، في معظم أعماله الحربية ، وهو صاحب كتاب (الفتح القسّي في الفتح القدسي ) وقد ذكر فيه أخبار وأعمال صلاح الدين وجيشه في اللاذقية ، في شهر تموز من عام (1188) بعد محاصرتها واقتحامها، وكان الأصفهاني شاهد عيان على ما حدث. وقد قال في وصف اللاذقية في ذلك الحين : " ورأيتها بلدة واسعة الأفنية ، جامعة الأبنية ، متناسبة المعاني ،متناسقة المغاتي ، قريبة المجاني، رحيبة المواني في كل داربستان ، وفي كل قطر بنيان، أمكنتها مخرّمة ، وأروقتها مرخّمة، وعقودها محكمة، ومعالمها مُعلمة ، ودعائمها منظمة ومساكنها مهندسة ومهندمة ، وأماكنها ممكنة ، ومحاسنها مّبينة و مطالعها مشرقة، ومرابعها مونقة، وأرجاؤها فسيحة و أهواؤها صحيحة ".
وبعد هذا الوصف الجميل ينتقل الأصفهاني الى وصف ما فعله صلاح الدين وجيشه في هذه المدينة من خراب ودمارقال : "لكن العسكر شعّت عمارتها ، وأذهب نضارتها ، وازعج ساكنيها ، وأخرج قاطنيها ، ووقع من عدة من الامراء الزحام على الرخام. ونقلوا منه أجمالاّ الى منازلهم بالشام ، فشوهوا وجوه الأماكن، ومحوا سنا المحاسن ...".
ثم ينتقل الى وصف كنيسة اللاذقية الكبرى، التي يذكرالبعض أنها هي (دير الفاروس) ويقول :
"وبظاهر اللاذقية كنيسة عظيمة ، نفيسة قديمة بأجزاء الاجزاع مرصعة، وبألوان الرخام مجزّعة ، وأجناس تصاويرها متنوعة ، وأصول تماثيلها متفرعة ، وهي متوازية الزوايا ، متوازنة البنايا ، وقد تخيرّت فيها أشباه الأشياء ، وصوّرت فيها أمواج الأمواه.." .
وبعد هذا الوصف المعبّر ، يعود الاصفهاني ليصف ما أصاب هذه الكنيسة من الأذى ، بعد استباحتها ، كما استبيحت اللاذقية على ايدي جيش صلاح الدين ،ومن والاه من أهل المدينة فيقول :
"ولما دخلها الناس ، أخرجوا رخامها، وشوّهوا اعلامها ،وحسروا لثامها، وكسّروا أجرامها..." ثم يتابع حديثه مبدياً أسفه على ما حصل فقال :
" ولقد كثُر أسفي على تلك العمارات كيف زالت، وعلى تلك الحالات كيف حالت ..."!
ابن بطوطة 1325 :
رحالة مغربي شهير ، له كتاب (تحفة النظّار) زار اللاذقية وكتب عنها ، ومن تلك الكتابات ما ذكره عن دير الفاروس ، وفيه يقول :
" وبخارج اللالفية ، الدير المعروف بدير الفاروس، وهو أعظم دير في الشام ومصر ، يسكنه الرهبان، ويقصده النصارى من الآفاق، وكل من نزل به من المسلمين فالنصارى يُضيفونه ، وطعامهم الخبز والجبن والزيتون والخل البكر...".
ابن فضل الله العمري 1348
رحالة وكاتب له كتاب ( مسالك الابصار) كتب فيه عن نحو مائة وستة أديرة، في بلاد الرافدين والشام ومصر، قال عن ديرالقاروس في اللاذقية :
"على جانب اللاذقية في شمالها، وهو في أرض مستوية ، وبناؤه مُربّع وهو حسن البقعة ..." كما ذكر ما قيل في الدير من شعر.
اللاذقية في عيون الأوروبيين
في القرون الأربعة الأخيرة زار اللاذقية مئات من الرحالة والجغرافنيين والعلماء والأدباء والمؤرخين وعلماء الآثار ، وقد قدموا الكثير من المعلومات المشوقة ، لا تتسع لها مئات الصفحات ونذكر هنا بعضهم :
ريتشارد بركوك 1738
رحالة انكليزي شهير له كتاب ( وصف الشرق) وهو أهم وأغنى مرجع عن الشرق في القرن الثامن عشر. وقد جاء على ذكر (دير الفاروس) الذي رأى أطلاله ، و وضع إشارة على الخريطة التي أعدّها لمدينة اللاذقية ، كما ذكر أنه كان في اللاذقية قنصليات لعدة بلدان أوروبية ومطرانية وأربع كنائس منها كنيسة على اسم القديس جورجيوس .
فولني 1783
من اشهر الرحالة الفرنسيين بل الأوروبيين ، له كتاب (رحلة الى سوريا ومصر) ذكر فيه ملامح من تاريخ اللاذقية وجغرافيتها ، كما تحدث عن محيطها وأحوال سكانها بأسلوب شيق ، ومما ذكره عن المسيحيين فيها قال:
"للمسيحين خمس كنائس ومطرانية، وهناك كنيسة لاتينية للقنصل الفرنسي، وكنيسة أرمينية ، المنازل جميلة خاصّة منازل القناصل التي ترفرف عليها اعلام فرنسا وانكلترا وإيطاليا وروسيا واسبانيا والسويد والدنمارك" ..
بم لورتيه : 1875
هو عميد كلية الطب بجامعة ليون الفرنسية . له كتاب بعنوان (سوريا اليوم) ضمّن فيه أخبار رحلاته وجولاته وقدم صوراً واقعية للأوضاع الاجتماعية في زمن كانت بلادنا تعاني فيه من التخلف والطغيان العثماني .
ومن وصفه لمدينة اللاذقية يقول عنها :
"ومدينة اللاذقية حسنة البناء عموماً ،وترتفع فوق ابنيتها اعلام العديد من الدول الأوروبية ، وفي اللاذقية خمس كنائس تابعة للمسيحيين الشرقيين ( الارثوذكس) يُديرها مطران، وبعض هذه الكنائس تحتوي على نقوش وكتابات جميلة من الانجيل (العهد الجديد)، وترتدي النساء في اللاذقية الاقمشة القطنية الزرقاء والبيضاء المصنوعة محلياً ، ويحرصن على تغطية وجوههن بمنديل قطني مصنوع في بريطانيا. أحمر اللون فيه رسوم من الزهر باللون الأسود، و منظره بشع يشوّه شكل المرأة"!...
و يتحدث د. لورتية عن الآثار الموجودة في مدينة اللاذقية ويقول أن المدينة تستحق الدراسة من جميع النواحي ، وإذا تم ذلك ، فسوف نقدم للبشرية حصاداً غنياً لعلم الآثار ، ثم يعود ليقول : " وسكان اللذقية نشطون جداً، ويبدو بوضوح أنهم يعيشون في بحبوحة، وكثيراً ما يصادف المرء في شوارعها ، بعض الوجوه الناعمة الذكية .

