في المدن الكبرى لدول العالم الثالث، حيث تمتد الأبراج العالية لتداعب السحاب، يبدو المشهد وكأنه لوحة تُظهر تطورًا ظاهريًا لا يقاوم. إن هذه الأبراج، بكل ما تحمله من بريق وزجاج يعكس أشعة الشمس، تبدو وكأنها تشهد على حضارةٍ تنافس ما أبدعه الغرب في عصور حداثته. لكن، حين تقترب قليلاً، وحين تدقق النظر، ستشعر أن هناك شيئًا ناقصًا، شيئًا لا يمكن لواجهة زجاجية أن تخفيه. فتلك الأبراج، بالنسبة لي، ليست سوى رموز تخبرك عن أموال طائلة أُنفقت لنقل صورة الحضارة، دون أن تمتد جذورها في التربة التي بُنيت عليها.
إنها ليست مجرد مبانٍ، بل مرايا تعكس التساؤل العميق الذي لا يفارق ذهني: هل نحن نعيش الحضارة حقًا، أم أننا فقط نرتديها كزينة؟ فحين أنظر إلى تلك الأبراج، لا أرى سوى محاولات تقليد، تقف على أطراف أصابعها كي تبدو أطول، كي تبدو أكثر إشراقًا، بينما في الحقيقة تبقى خاوية من روح الابتكار. إن الحضارة الحقيقية ليست مجرد زينة أو شكل براق، بل هي منظومة فكرية متكاملة، تقوم على الإبداع والإيمان بقدرة الإنسان على التغيير.
أفكر كثيرًا في تلك الأدوات التي أصبحت جزءًا من حياتنا اليومية: الغسالة التي تسهّل الأعمال المنزلية، أو الهاتف الذكي الذي يضع العالم في راحة يدك. إن كل هذه الاختراعات وُلدت من حاجة حقيقية، من مجتمعات أرادت توفير الوقت والجهد للإنسان ليتمكن من الإبداع والإنتاج. لقد كانت المرأة في الغرب، على سبيل المثال، بحاجة إلى أدوات تُخفف عنها عبء الأعمال المنزلية حين خرجت للعمل جنبًا إلى جنب مع الرجل، لتُصبح شريكًا أساسيًا في بناء الاقتصاد والمجتمع.
لكن، ماذا عنّا؟ هل غيّرت هذه الأدوات شيئًا في حياتنا كما فعلت في المجتمعات التي اخترعتها؟ لا أظن ذلك. تلك الأدوات التي وُلدت نتيجة لحاجات ملحّة وتغيرات جذرية في البنى الاجتماعية في الغرب، وصلت إلينا كسلع جاهزة، مغلفة بأفكار لا تخصنا. فالغسالة، التي صُممت لتمنح المرأة العاملة وقتًا إضافيًا للمساهمة في الإنتاج أو التمتع بحياة شخصية أكثر حرية، تحولت في بيوتنا إلى مجرد أداة تقليدية تعمل دون أن تُحدث فارقًا يُذكر في حياة المرأة، التي لا تزال محصورة في دورها التقليدي داخل المنزل.
لم نتبنَّ الأدوات كجزء من نظام فكري شامل يُعيد تشكيل حياتنا، بل استخدمناها كوسيلة لرفع مستوى الرفاهية الظاهرية دون أن نمس جوهر العلاقات الاجتماعية أو توزيع الأدوار. فالرجل، في الكثير من الحالات، ظل يعتبر العمل المنزلي شأنًا نسائيًا، حتى مع وجود هذه الأدوات التي يفترض بها أن تُخفف الأعباء. وهكذا، بقيت الآلة، بكل ذكائها التقني، تخدم نظامًا اجتماعيًا جامدًا، بدل أن تكون حافزًا لإعادة التفكير في العلاقات بين أفراد الأسرة أو في أدوار المرأة والرجل داخل المجتمع.
إننا نعيش في عالم حيث المظاهر تُغيّب الجوهر، وحيث الأدوات تُستورد دون أن تُحدث تغييرًا جذريًا في أنماط حياتنا. نعم، أصبحت لدينا غسالات وآلات لغسيل الأطباق، وأفران حديثة، ولكنها لم تُغير من طبيعة الأدوار المجتمعية التي تظل، في كثير من الأحيان، متجذرة في تقاليد تجعل من المرأة عمودًا صامتًا للمنزل، في الوقت الذي يُفترض فيه أن تُسهم هذه الأدوات في تحريرها من قيود الدور التقليدي لتكون شريكًا متساويًا في بناء المجتمع.
إن الأبراج العالية التي تزين مدننا ليست سوى امتداد لهذه الظاهرة. إنها أشياء استوردناها لنعكس صورةً عن أنفسنا، لكنها لا تحمل فلسفة أو رؤية متكاملة لما نريد أن نكون عليه. إنها مجرد صدى لما تحقق في أماكن أخرى، دون أن نفهم السياق الذي جعلها ممكنة. إن الحضارة ليست أبراجًا، وليست تقنيات أو أدوات فاخرة، بل هي ثقافة تُعيد تشكيل الحياة. إنها تبدأ من العقل، من الفكر الذي يدفع الإنسان للتساؤل والبحث عن إجابات جديدة.
إننا، في منطقتنا العربية، نتسابق لنقل كل شيء: الأبنية، والتقنيات، والملابس، وحتى نمط الحياة. لكننا، في هذا السباق المحموم، نسينا أن الحضارة ليست مجرد استيراد، بل هي صناعة. إن بناء الأبراج العالية لا يُمثل تقدمًا حقيقيًا إذا لم يُصاحبه بناء في العقول، وإذا لم نخلق الظروف التي تجعلنا منتجين لا مستهلكين فقط.
إن التفكير في هذا كله يجعلني أتساءل: هل نملك القدرة على الإبداع حقًا؟ هل يمكننا أن نصنع حضارة تخصنا، أم أننا سنظل عالقين في دائرة التقليد؟ الجواب لا يتعلق بما نملكه من موارد مادية، بل بما نؤمن به من قيم وأفكار. فالحضارة تبدأ عندما نضع الإنسان في قلب مشروعنا، عندما نستثمر في التعليم، عندما نسمح للعقول أن تفكر بحرية، وعندما نتخلص من قيود التقاليد التي تُقيد الإبداع.
لا أستطيع أن أنكر أننا نعيش في عالم مذهل بإنجازاته التقنية والعلمية. لكن، ما يثير القلق هو أننا، في مجتمعاتنا العربية، ننظر إلى هذه الإنجازات وكأنها غايات بحد ذاتها، بينما هي في الحقيقة مجرد أدوات. الأداة لا تصنع حضارة إذا لم تُستخدم لخدمة الإنسان. والأبراج العالية لن تُضيف شيئًا إذا لم تكن جزءًا من مشروع فكري أعمق، مشروع يعيد صياغة علاقتنا بالعالم وبأنفسنا.
إن الحضارة الحقيقية ليست في الأبراج التي تعانق السماء، بل في الأفكار التي تُغير طريقة تفكيرنا. إنها ليست في الغسالة التي تُنظف الملابس، بل في النظام الذي يُتيح للمرأة والرجل فرصًا متساوية للابتكار والإبداع. إنها ليست في المطار الذي يستقبل أحدث الطائرات، بل في العقل الذي يستطيع التحليق بأفكاره إلى آفاق جديدة، يتجاوز حدود المألوف ويعيد تشكيل الواقع وفق رؤية أكثر عدلًا وإنسانية.
إن الحضارة الحقيقية هي التي تجعلنا نطرح الأسئلة الصعبة: ماذا نريد أن نكون؟ كيف نتحرر من سجون العادات التي تعيق تقدمنا؟ وكيف يمكننا أن نُعيد تعريف علاقتنا بالزمن، وبالعمل، وبالعالم من حولنا؟ إنها تلك اللحظة التي ندرك فيها أن التطور لا يُقاس فقط بما نمتلكه، بل بما نقدمه للبشرية من إضافات حقيقية، من رؤى تفتح العقول، ومن أنظمة تعزز العدل، ومن قيم تُعيد للإنسان مكانته كصانعٍ للمعرفة، لا كمستهلكٍ لها.
قد تبدو الأبراج التي تعلو في مدننا علامة على التقدم، لكنها تظل مجرد رمز، قشرة تخفي وراءها الكثير من الفراغ إذا لم يكن هناك فكر يملؤها بالحياة. إن المستقبل لن يكون لمن يملك الأبراج الأعلى، بل لمن يملك الأفكار الأعمق. لمن يستطيع أن يزرع في الأذهان روح التساؤل بدلًا من الاكتفاء بالانبهار، لمن يرى في التكنولوجيا وسيلة لتحرير الإنسان، لا أداة لإحكام السيطرة عليه.
إن الحضارة ليست سباقًا لتقليد الآخر، بل هي رحلة لاكتشاف الذات، لإعادة صياغة الحياة بطريقة تجعل الإنسان في مركزها، وتجعل من كل أداة وسيلة لخدمة طموحاته وأحلامه. إنها التحدي الحقيقي: كيف نصنع بيئة تُشجع التفكير، لا التلقين؟ كيف نُقيم نظامًا يقيس النجاح بمدى القدرة على الابتكار، لا بعدد ناطحات السحاب؟ وكيف نجعل من كل تقدمٍ مادي خطوة نحو ازدهارٍ فكري وإنساني؟ عندها فقط، نستطيع القول إننا نبني حضارة، لا مجرد أبنية

