الثقافة ضرورة في تشكيل الكيان الوجداني والإنساني لدى بني البشر، حيث تعد من الاحتياجات الضرورية مثل المأكل والمشرب والمسكن والملبس. ربما لم يذكرها ماسلو في الهرم المدرج الذي شرح فيه الاحتياجات الأساسية للإنسان: "الاحتياجات الفسيولوجية: تشمل الطعام والماء والهواء والنوم والأمان الجسدي. الاحتياجات الأمنية: تشمل الأمان الشخصي والصحة والاستقرار المالي والحماية من الأذى." كل هذه الأشياء يبحث فيها الإنسان عن مكان آمن يحتمي به، كحصون دفاعية يلجأ إليها وقت الخطر. البحث عن مكان آمن ضرورة حتمية، حتى يستطيع الإنسان الحفاظ على نفسه سالمًا وآمنًا. هذا هو المنطق الطبيعي. إذن، كل منا يبحث عن "المعرفة". المعرفة هنا هي كنز الكنوز. دون شك، من يملك المعرفة هو الرابح أو المسيطر على الوضع برمته.
ومن خلال الاستنباط والبديهية، نجد أن المعرفة لا تأتي بالفطرة، بل تأتي بالاطلاع والقراءة والبحث والمحاكاة والتقليد. وعندما نحلل معنى هذه المفردات، نجد أنها هي الوسائل التي تثقف البشر وتتبلور من خلالها المعارف والخبرات. الثقافة والمعرفة تعني الوصول إلى غاية الحقيقة في جميع مجالات الحياة، من خلال تحسين الثقة بالنفس وزيادة وعي الفرد ليعيش حياة سوية، لينمو في بيئة تناسب قدراته العقلية والجسمية والنفسية، ولتلبية احتياجاته التي ترضى طموحه، ليصبح إنسانًا منتجًا ومتفاعلًا مع البيئة والمحيط الذي يعيش فيه، لتتم تبادل المنفعة بينه وبين وطنه.
ولهذا، يسعى الفرد جاهدًا إلى اختيار طريقه الذي يناسبه ليفي بحاجاته. وعندها، يسأل الإنسان نفسه: ماذا ربح؟
بدون ثقافة وإطلاع، نحن جهلاء وموتى.
هل يجد الإنسان نفسه عندما يحقق أحلامه ويصل إلى مبتغاه؟ ماذا لو وجد نفسه في مكان لم يكن يريده؟ ولكن الظروف وضعته فيه. القراءة والاطلاع، البحث والتبحر في فحص واختبار الأشياء من حولنا، تنمي روح الابتكار وتجعل من الإنسان قادرًا على تحليل كل ظاهرة من حوله، حتى لا يعود إلى العصور البدائية. قديمًا، كان الإنسان يفسر الظواهر الطبيعية بطرق مختلفة وفقًا لمستوى ثقافته وتفكيره. تتلخص هذه التحليلات في أربعة أنواع من التفكير: "تفكير بدائي خرافي، تفكير ديني، تفكير علمي، تفكير فلسفي منطقي". دون شك، التفكير البدائي أو الخرافي هو ما يجعل صاحبه في صفوف المتخلفين والخاسرين. مثلًا، ظاهرة البرق والرعد كان يعتقد الإنسان البدائي أنها غضب من الآلهة التي تتحكم فيها. وعلى النقيض من ذلك، اهتم التفكير العلمي بتفسير الظاهرة وخضعها للبحث العلمي وتأكد من صحة قوله بالتجربة.
ومع حلول الألفية الثالثة، لا يزال الكثير من المجتمعات يفكر بهذا الفكر الخرافي المضاد للتفكير العلمي الذي يُخضع كل شيء للتجربة والاستنتاج. نعم، هذا التفكير الخرافي مثل الطاعون يستشري في الكيان ويجعله جسدًا ميتًا لا حياة فيه، ليكون فريسة لكل طامع من حوله. خير دليل على ذلك القبائل البدائية التي تم إبادة بعضها بالكامل أو التي لم تنل قسطًا من التعليم أو المعرفة أو الثقافة. ماذا حل بها من قبل الاستعمار؟ عندما استعبد الإنسان الأبيض أخاه الأسود، صنع به أبشع الجرائم في حق الإنسانية. عندما جلب المستعمر بعضًا من الزنوج لعرضهم في حديقة الحيوان في بلاده على أنهم حيوانات، هل صدق هؤلاء أنفسهم بهذه الصورة فقط لأنهم كانوا يجهلون؟
أي جرم أعظم من هذا؟ ماذا فعلوا أيضًا عندما قاموا بتجاربهم العلمية باستخدام هؤلاء الناس كفئران تجارب؟ كم من المآسي ارتكبها الإنسان الذي يمتلك المعرفة بحق أخيه الجاهل الذي لم يمتلكها؟ إذا أردنا الحقيقة المطلقة، فإن المعرفة والثقافة، التي تهدف إلى جمع أقصى حد من المعلومات، هي من يمتلك القوة الحقيقية التي تسيطر على جميع مجريات الحياة. إنها الكنز الحقيقي. ومع التقدم العلمي والتكنولوجي والذكاء الاصطناعي الذي يتطور بسرعة رهيبة بين الدول والأمم، ستظل الهوة بين الأقوياء والضعفاء تتسع، وستبقى قصة "المليار الذهبي" حقيقة لا مجرد تكهنات أو افتراضات كما يزعم البعض. وأنا لا مع ولا ضد وجود ماسونية عالمية، لكنني أعرف أن قانون الغابة قائم، وهو مزاحمة الإنسان لأخيه الإنسان. قصة قايين وهابيل تتكرر كل يوم بين الأمم والشعوب عبر العصور. القوة والغلبة في هذا العصر كما في العصور السابقة كانت تعتمد على المعرفة و جمع المعلومات، ورسم الخطط الحربية باستخدام العلم والثقافة، وليس فقط البنية الجسدية.
كان يسبق هذه القوة الفكر والتخطيط العلمي، مثلما فكر الإنسان في صنع السيف، ثم اكتشاف البارود وصناعة المدافع، ثم الطائرات والصواريخ. لا مفر من المعرفة، البحث، الإطلاع والقراءة التي تثري ثقافة المجتمع، فتجعله أحياء يفكرون، يتأملون، ويرسمون خططهم لحياة أفضل.
أخيرًا، وليس آخرًا، انظر إلى كيف يشكل وعي وثقافة الشباب عندما تصبح أغاني المهرجانات ووسائل التواصل الاجتماعي مثل تيك توك هي ما يشكل وجدانهم وكيان جيل بأكمله. كما قال كبار الكتاب مثل سلامة موسى ولويس عوض، إن الثقافة لا تقتصر على ما يقال أو يكتب، بل هي القدرة على التفكير والتفاعل مع الحياة بروح نقدية وعقلية واعية. كما قال موسى: "الثقافة ليست ترفًا بل ضرورة للإنسان في تطوره"، وقال عوض: "من دون ثقافة حقيقية، يتلاشى الإنسان في الزمان والمكان." هذا ما يعكس صورة حقيقية لما نحتاجه لبناء مجتمع ينمو بالمعرفة ويعيش في عالم أفضل.
وفي هذا السياق، نجد أن الفيلسوف جان بول سارتر قد قال: "الإنسان يُصنع في اللحظة التي يقرر فيها أن يصبح هو ذاته." هذه المقولة تلخص الفكرة الجوهرية التي طرحناها، وهي أن الثقافة والمعرفة تمنح الإنسان القدرة على إعادة تشكيل نفسه، واختيار طريقه في الحياة، بعيدًا عن التأثيرات الخارجية التي قد تفرض عليه دون وعي.

