طالعت من النافذة في ترقب ؛ الأفق البعيد المُسربل بالضباب ، غلالة رقيقة تلف مهد الصبح الوليد ،كل شيء ساكن في محله ،في هاته الساعة تتبدى الطبيعة مُختالة في عُذريتها كفتاة بِكر ، تطفو فوق مياه الترعة الكبيرة المرتعشة بعض الأشياء ، أعواد الذرة اليابسة ،جذع نخلة صغير، شجرة موز ،حبات الجميز والجوافة ، انتزع نفسي من الفراش بعد لأيٍ ،لأشهد الميلاد المُبكر ، لحظة انفكاك النهار من سطوة الليل وجبروته ،يتخّفف من قبضته الخانقة تباعا ،في قريتنا تعوّد الليل على المَجيء ؛ لا لشيٍء إلا ليفترس النهار ويخفيه ، ينهي حياته ويطويه ، يزيل بسواده كل التعقيدات ، يغرق كل شيء بسكرته الرمادية غير المحدودة ، يلزم البشر أن يحترموا إرادته ، وينصاعوا لسطوته.
مضيت إلى الدرب اغبّ من هواء الصبح الطازج ،املأ رئتي منه ،أزيح عن صدري ثقلا ، أكافح على أن اتخلص ولو قليلا من جمود الليل ،الذي طاردتني قيوده ،كبلت بها مذ شاخ نهار الأمس ، اغمضت عيني ،وقد أسندت ظهري المتراخي للجدار المقابل لبيتنا ، مررت يدي فوق صدري المُعبَّأ بنداوة الجو ، في هذه الأثناء يتّأتى النسيم طريا من جهة الحقول ،كل هذا تم قبل أن تتسرّب رعشة لذيذة من حولي ، خليط ممجوج تتقاذفه البيوت الرابضة في استسلام ،صرخات ابنة الجيران الرضيعة المتواصل منذ المساء ،الضجيج المعتاد المنبعث من بيت " عبدالعزيز فتوح " ، وتشاكس أولاده ،عواء باب منزله حين يفتح، تعليماته المتواصلة يلقي بها في حزم، قبل أن يركب حماره ، موشحه الساخر ، وابل السباب المعهود والتلاسن الحاد مع زوجته " سكينة " ،التي أجهدها بخله ،وأعياها تبلد مشاعره.
تشتد وطأة النهار ،يزحف الضوء يتبعثر من خلف قمم النخيل حول البيوت ، يعلو الضجيج زاعقا ،يمتلئ الدرب بالسابلة ، تتصاهل الضحكات من بيت " سميرة " ،ينفذ صوتها رقيقا شهيا ،يشبه مشيتها التي تسيل في رشاقة وليونة ، تُغرِد في ميوعة ، أغنيها المفضلة:
خلي بالك يا سماره خلي بالك
أمي وابويا ضربوني علشانك
قبل الساعة ، لم يكن الفاصل بين جدارنا والجيران ليثير انتباهي ، مجرد خط غائر ، امتد في عمق من أعلى لأسفل ،حُفِر بقوة منذ زمن في الجسد الطيني المُنهك ، يحمل الخوف في جوفه ، الثعابين الصفراء التي والعقارب ،لا تكف عن تساقطها في ليالي الصيف ، الخفافيش ،أعشاش العصافير تتناثر فضلاتها ،وقشور البيض وبعض الزَّغب، اقتحمتني ضجة عالية ، لزوجين من العصافير يضربان بأجنحتهما في انزعاج ،لحظات ثقيلة تمر عليهما من الخوف والهلع ،قبل أن يلحق بهما سِربٌ من الأصدقاء ، حُوم كثيفة تتماوج زقزقتها ،تابعت المشهد في ارتباك ،حتى هالتني المفاجأة ، ذيل ثعبان أسود يقتحم العش يبتلع الفراخ ،ألقيت بنظرة شاحبة ، وكأننّي اجرب الحزن لأول مرة ،تعوَّد المفترس زيارة العش الهانئ ، ينتزع الصغار في وقاحة ، مكاني اتحَّرق في انفعال ، يتحلَّب عرق يُغرِق جسدي ،تتضاعف دقات قلبي مع اهتياج الطير المسكين ،أبادلهم الخوف والحذر ،لم تتوقف الضوضاء الحزينة ،ولم أجد معها خلاصا لآلامي ،وعجزي عن تقديم المعونة ، يعلو الصوت ، ضاقت بالمدافعين وجوه الحيلة ، ابتعدوا قليلا عن الشق ،ظهر اللص في خيلاء ،يتمايل برأسه في انتفاخٍ بغيض ،ظلّ في مكانه قبل أن ينصرف للأعلى ، وتبتلعه نتوءات الطين ،شعرت مع انسحابه ، وكأنَّ طيرا صغيرا يضرب بجناحيه في صدري ،أصوات مكتومة ،خفقات واهنة ،استسلام مميت وقلة حيلة ،لا اذكر كم مضى من الوقت وأنا على وقفتي تلك ،لكن ما اعرفه ، أنني اكبح جماح رغبة ملحة في البكاء .
شبَّ النهار عن طوقِه ، وافترشت شمسه تشق الفضاء بخيوطها الذهبية ، زحفت سحب كثيفة من الناس تتجمع في طنين مزعج ، مرت أيام بهتت معها كآبة الصورة في ذاكرتي ،وفي إحدى الأماسي تناوبت الأيدي في لُهاثٍ ، ثعبان ضخم يتمدد على الأرض فتكت به العصي ،طالعته في انتشاء ، يتلألأ البِشر في وجهي ، وجدتني أتقدم منه ، لأقول بصوت مسموع :" هذه عاقبة كل معتدي أثيم " ،استغرب الحضور لحدتي ،لكني بت ليلتي كأسعد ما يكون.

