فتاة الغروب يكتبها : محمد فيض خالد

فتاة الغروب يكتبها : محمد فيض خالد
فتاة الغروب يكتبها : محمد فيض خالد
 
 
لا يَعرف أحَدٌ سِرّ خُروجها فّي هَاتِه السَّاعة من الغُروبِ ، تتَرامى عشرات الأسئلة المُحيّرة في طريقها حِين الذِّهاب وحِين العَودة ، ما جَدوى وقتها الذي تَقضيه مُنفرِدة شَاخِصة نحو الأُفقِ المُخضَّب بلحظاتِ الوَداع عند السّنطةِ ، من فَوقِ ظُهوِر دَوابّهم يرمونها بنظراتهم المُفترسة ، تَدور أحاديثهم في نَجوى مُقلقٍة ، سَريعا تتَحوّل بجمجمٍة تَندفع فّي تَهورٍ لتنهش شرف الغافلة ، وتَمسّ سمعتها دون تحفّظٍ ، عَلِمت أخيرا ما يُحاكّ مِن حَولها فازداد تَغافلها ، واسلمت فِكرها أسيرة َعوالم وردية من نوعٍ  خَاص، اشغلها عن سَخافاتِ ألسن السُّوء  ، لم يَسأل أحَد نفسه :" ماذا يُريد المُتربّصون من فَتاتهم الطَّريدة التي فجعتها الدنيا سنين طويلة ، فالقتها في هذا الفضاء المُلتهب ؟!" ، لكن صدورهم الحَرجة ، تَعوّدت اقتحام خُصوصية أمثالها، فلم يتركوا لها من حُريةٍ أن تكون كيفما شَاءت، قيدوها بخيوطٍ جعلهم ليروا في " زينات " فتاة مُنفلتة لَعوب ، لقد جنى عليها جمالها الأخاذ الذي تخطّفهم من أولِ وهلةٍ ، لكنها لم تكن على درايةٍ بميزاتها تلك ، ظنت وهي الغريرة أنَّها لا تزال تعيش في البندرِ في زِحامٍ البيانات الشَّاهقة ، تختلط بضوضاءِ تُغالِبُ كُلّ شيء ٍ، تلك التي لا يعرف فيها الأخ أخيه ، تناست هذا كله لكنها اصطدمت فَجأةً بِجدارٍ كثَيف لزَج، تَرصّدت الأقدارُ خُطواتها لُتلقي بها على الهامشِ في عُزبةٍ أشبه بيتٍ كبير ، تَوهّمت فيّ نفّسها أنَّ الحَياة بسيطة ، تَستوعِب الجميع لكنَّها أدركت شيئا وغابت عنها أشياء ، هنا يفَتضحُ السِّر ، لا شيء يَخفى فما لاتَطاله بالليلِ يُنشر أمامك تَحت شمس الغِيطان ، تتَعالى صيحاته تحت ضَرباتِ الفُؤوس حينَ َتلتهِمُ الأرضَ في نَهمٍ ، استقرت " زينات " في بيتِ عمها بعد رَحيلِ والدها ، هُناك عَاشت سنواتٍ قضتها هانئة في البَندرِ ، حَين كَان رَبّ الأُسرة يَعملُ في مصنعِ السُّكرِ ، مَرّت عليها كَحلمٍ جميل سُرعان ما استيقظت منه بعد أن فُجِعت بفقدهِ ،فلابُدَّ وأن تعَود العائلة الأم وأبناءها ، إذ كيف للنساِء أن يعشن بلا رجَلٍ في هذا الزِّحام الذُّكوريّ المُخيف ، هكذا يعتقد كُلّ قروي غَيور سَاذج ، يرى فّي صَونِ عرضه وشرفه ولحمه أعزّ ما يملك ، ولا طعم للحياةِ إذا فَقدَ المرءُ شَرفه ، سَارعَ عمها فاحَضرَ العائلة الكئيبة على مضضٍّ ، كانت القناةُ شهية كل نفس ، حظيت بفتنة وغواية،  ليّنة العود ، مُمتلئة ريّانة بماءِ الشّباب ، تفورُ فورة أنثوية أخّاذة ، غَطَى جمالها الساحر  كُلّ جمال ، مُشرقة الطَّلعة ، ذكية وقّادة الذِّهن مُذ داست القرية ، وطيفها يَسبحُ في خيالِ شبابها المَشبوب ، لكنّ أحَدا منهم لم ينل منها أبعدَ من تَحيةِ الصَّباح ، تَشفعها بابتسامةٍ مَحزونة ، لكنَّ كُلّ واحدَ رآها حَظيته الوحيدة ، فسعى لها سَعيها ، لم تكن تدري ما يُحَاكُ في زَوايا مَجالسهم ومراهناتهم المنصوبة من حولها ، كانت دائمة التّمنع ، لا يَستميل رأسها كلامهم المعسول ، بل ظَلَّت هَكذا في عِنَادها تصدّ وتردّ ، تردعهم إذا لَزَمَ الأمرُ ، فتُثير حفيظة كثيرين راعتهم جفوتها وجرأتها غير المتوقعة ، وفي صَبيحةٍ مموّهةِ السَّماء بلونٍ رَائقٍ جميل ، وجدوا جثتها مُمزّقة بجوارِ السَّنطة ، يَتدفّقُ دمها إلى أن ارتوت منه الشَّجرة ، ورسالة مكتوبة بأحرفٍ مُختَصرة بجوارها :" لقد تخلّصتُ من حياتي بعد أن فقدت حُبّي الوحيد " وحتّى اللحظة والقرية في شغل وحيرة ، تتساءل من يكون حبيبها ذاك المجهول ..؟!