أخبار عاجلة

أ.د/ صبري فوزي أبو حسين يكتب : التَّنَمُّر النقدي ضد الشاعر المصري الرائد أمل دنقل (1)

أ.د/ صبري فوزي أبو حسين يكتب : التَّنَمُّر النقدي ضد الشاعر المصري الرائد أمل دنقل (1)
أ.د/ صبري فوزي أبو حسين يكتب :  التَّنَمُّر النقدي ضد الشاعر المصري الرائد أمل دنقل (1)
التنمُّر النقديُّ مرض نفسي وعقلي عند بعض الكلاسيكيين المحافظين الاتباعيين، الراغبين في الظهور والاستعلاء، والمصابين بعقدة الرفض لكل جديد وحديث، والمستخدمين للُّغة العنيفة الحادَّة القاسية ضد الآخر المُحاوِر أو المُخالف، والتي من شأنها الإقصاء والتشويه لكل مبدع وتقزيمه والنيل من مكانه ومكانته في نفوس الناشئة والعامة! وفي الحالة الأدبية المصرية  المعاصرة نجد هؤلاء يرفضون الشعر الحرَّ ويرونه ردة وتخلفًا وتدميرًا وعارًا! وينالون من رادته ومبدعيه، ولا يرون في نتاجهم خيرًا، ولا فنًّا، و لا أثرًا، ويحكمون عليهم بجرَّة قلم أنهم أصفارٌ وأدعياء، بل وصل الأمر عند بعضهم أن وصمهم بالعِمالة والخيانة والسرقة! وهذا لا يصدر إلا عن أناس يعيشون مبتلين بما يسمى نظرية المؤامرة، التي تنطلق من رفض الدليل والمنطق، وتعتمد الشك في كل شيء، والتوجس من كل إبداع وتحديث ومن كل مبدع، وهؤلاء موجودون في كل عَصر ومَصر، ولم يسلَم منهم شاعر مبدع، ولا باحث مفكر، ولا أدلَّ على ذلك من موقف بعض النقاد التراثيين من شعر أبي تمام والمتنبي، وهما مَن هما في دنيا الشعر العربي ومسيرته! 
وأقف في هذه المقالة مع موقف سلبي لواحد من هؤلاء! هاجم فيه قصيدة لشاعرنا المصري الكبير الرائد أمل دنقل(1940-1983م)، صاحب المجموعات الشعرية الست: (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة سنة 1969م، وتعليق على ما حدث، سنة 1971م، ومقتل القمر، سنة 1974م، والعهد الآتي سنة 1975م،  وأقوال جديدة عن حرب البسوس سنة 1976م ، وأوراق الغرفة 8 سنة 1983م)، ذلكم المبدع المصري الفذ الذي جاء شعره مغايرًا، وصادمًا، ومثَّل تجربة خاصة جدًّا، لا سيما في تناصِّه الإيجابي مع التراث العربي العتيق والشعبي معًا، وفي انفعاله الحي والحيوي مع الحالة المصرية والعربية سياسيًّا واجتماعيًّا وفكريًّا! وقد شهد بفوقيته وتميزه كبار النقاد العرب أمثال الدكتور جابر عصفور في كتابه "قصيدة الرفض : قراءة في شعر أمل دنقل"، والدكتور صلاح فضل في مقاله(إنتاج الدلالة في شعر أمل دنقل)، والدكتور منير فوزي في رسالته(صورة الدم في شعر أمل دنقل: مصادرها قضاياها ملامحها الفنية)، والناقد اللبناني المعروف جهاد فاضل في كتابه(قضايا الشعر الحديث)... وغيرهم داخل مصرنا وخارجها. 
  فقد اتُّهم شاعرنا(أمل) بالسرقة في شعره، في قصيدته المعروفة تداوليًّا بقصيدة (لا تصالح)، والمثبتة في ديوانه(أقوال جديدة عن حرب البسوس)، بعنوان (مقتل كليب "الوصايا العشر")؛ إذ ادُّعِيَ أنها مسروقة من قصيدة للشاعر الأمير كليب، واردة بالسيرة الشعبية (الزير أبو ليلى مهلهل بن ربيعة)، وهي قصيدة مكونة من مطلع وعشرة أبيات، فيها نصائح عشر، قالها كليب -وهو يموت- لأخيه المهلهل بن ربيعة، منها:
                     واسمع ما اقلك يامهلهل         وصايا عشر افهم المقصود
                     فأول شرط اخوي لاتصالح       ولو اعطوك زينات النهود
                     وثاني شرط اخوي لاتصالح      ولو اعطوك مالا مع عقود
                     وثالث شرط اخوي لاتصالح      ولو اعطوك نوقا مع كاعود
... وظاهر أنها تجربة زجلية، من الشعر الشعبي العامي، على قالب عروضي، هو البحر الوافر التام! تنتمي إبداعيًّا إلى العصر الأخير من الحضارة العربية العتيقة: عصر المماليك والعثمانيين!  إننا -إذن-أمام قصيدتين متصارعتين لدى ناقد قارئ-ذي نظرة سطحية تَرَبُّصية!- هما: قصيدة ضحية مسروقة(قصيدة كليب) وقصيدة ادعي عليها أنها سارقة مُتَّهَمة(قصيدة  أمل دنقل: مقتل كليب"الوصايا العشر")!
ويقصد بالسرقة الشعرية -في مرآة الدكتور بدوي طبانة- "أن يعمد الشاعر إلى أبيات شاعر آخر فيسرق معانيها وألفاظها، وقد يسطو عليها لفظًا ومعنًى، ثم يَدَّعي ذلك لنفسه"، والحكم بالسرقة الشعرية على شاعر حكم قاسٍ حادٌّ أليمٌ، لا سيما حين يتعلق الأمر بشخص شاعر مبدع رائد، يلقب بأنه (أمير شعراء الرفض) في تاريخ شعرنا الحديث! فهل فعل شاعرنا (أمل دنقل) هذه الفَعْلة في قصيدته الجهيرة(لا تصالح)؟ 
والإجابة عن هذا السؤال أن شاعرنا لم يقع في هذه الفعلة الشنيعة؛ فمَن يطالع القصيدة في الديوان يرى أن (أملاً) قدمها بطريقة خاصة، وكأني به كان يحس بأنه سيأتي زمان على شعره الساحر يكون عُرضةً لادعاء السرقة على شعره هذا واتهامه بها! ومن ثَمَّ نجد عرض الشاعر قصيدته هاتِه في ديوانه، عبر عتبات فنية مُحدِّدة، تدل على وعيه الفني العميق، ومنهجه الإبداعي الدقيق، وهذه العتبات هي: 
1- عتبة المجموعة الشعرية الرئيسة:
تنتمي القصيدة المُتَّهَمة إلى ديوان (أقوال جديدة عن حرب البسوس)، وهو ديوان يعبر عن تكنيك جديد في صناعة الدواوين، يُسمَّى (الديوان القصيدة)، لتكَوُّنِه من ثلاث قصائد مُتَرَتِّبة مترابطة متلاحمة، هي (مقتل كليب، الوصايا العشر)، و(أقوال اليمامة)، و(مراثي اليمامة)، ويتضح من هذا العنوان الرئيس أن الديوان يعتمد على استدعاء لحرب البسوس وإعادة إنتاج لها، بعرضها بطريقة عصرية؛ فالشاعر يمتح من أجواء هذه الحرب- شكلاً ومضمونًا- ما يناسب عصره ورؤياه، وصوَّر ذلك بلغته الخاصة، وإيقاعه الخاص! وأرى أن شاعرنا جعل من شخصيتي(كليب)، و(اليمامة) معادلاً موضوعيًّا، يسقط شاعرنا على لسانهما كل ما يريد قوله، ولا يستطيع البوح به! وفي نظري (كليب) عنده رمز لكل قائد مغدور به، و(اليمامة) رمز لأبناء المقاومين وبناتهم، الرافضين لكل صلح مهين والحريصين على المواجهة والأخذ بالثأر لكل مقتول ومغدور!