الحسين عبد الرازق يكتب: عن القيم التي غابت!

الحسين عبد الرازق يكتب: عن القيم التي غابت!
الحسين عبد الرازق يكتب: عن القيم التي غابت!

نشأنا وكبرنا، عرفنا وفهمنا، وعينا وتعلمنا أن للموت هيبة، وللميت حرمة، وأن الموت مصيبة لها جلالها، ولابد لنا من احترامها، هكذا علمونا منذ أن كنا صغاراً نلعب ألعاب الصغار، قبل زمن العولمة، حيث المحمول وكاميراته، والنت و (سوشيالاته)!

لم تكن تلك الأشياء قد غزت مجتمعاتنا، ولا عرفناها، ولا عرفت طريقها لبيوتنا،

كان التليفزيون هو وسيلة الترفيه المتاحة، والوحيدة، والنافذةالتي نطل منها علي العالم، وعلي الرغم من هذا،  فقد كان تليفزيون منزلنا العامر يغلق فوراً، إذا ما أذاع عامل المسجد المجاور لبيتنا عبر مكبر الصوت أن أحد سكان الحي قد توفاه الله، كانت أمي تهرع مسرعة باتجاه مقبس الكهرباء لإنتزاع الفيشة، وإحضار الغطاء القماش لتلبسه للتليفزيون، الذي سيظل مغلقاً لأسبوع كامل علي الأقل، حداداً علي روح المتوفى" الذي لا نعرفه" تضامناً مع ذويه " الذين هم ليسوا من أقاربنا " والويل كل الويل لي إن أفصحت عن غضبي، أو أبديت اعتراضي، كانت جدتي يرحمها الله تزجرني بعبارة لم أكن أفهما عندما كنت صغيراً، ولا اقتنعت بها بعد أن صرت كبيراً  ...

بس اسكت خالص ما تتكلمش، ولد قليل الأدب، "إنت عاوز الناس ياكلوا وشنا" ؟!

كان هذا في زماننا، هكذا تربينا، وكان هذا ما وجدنا عليه آبائنا، فلماذا تبدل حالنا؟

ما الذي تغير فينا، وماذا حدث لنا وبنا؟

ساءني كل ما شاهدته من مقاطع مصورة، لمراسم نقل ودفن جثمان السيدة دلال عبدالعزيز "الله يرحمها"، ويلهم أهلها الصبر والسلوان .

اللقطات التي شاهدتها، وبصرف النظر عن رأيي الشخصي، أو تقييمي المهني لها

" كلها كده علي بعضها" ولكنها تدلل بوضوح علي افتقارنا إلي قيمة كبيرة غابت مؤخراً عن مجتمعاتنا، بعد أن ظلت لعقود تمسك بزمام أمورنا، وتضبط بوصلة حياتنا، القيمة التي غابت كان اسمها (المعايير)!

والمعايير ياسادة لمن لا يعرفها، هي مجموعة الأسس الحاكمة التي يقوم عليها كل شيء، أو التي ينبغي أن يلتزم بها القائمون علي أمر أي شيئ!

إنني اليوم،  وبعد أن شاهدت ما شاهدته، وما بت أراه كثيراً و أشاهده هذه الأيام، لا يخالجني شك في أن "الست معايير" قد حزمت أمتعتها ورحلت قبل زمن ليس بالبعيد،  بعد أن أصابتنا لعنة النت والتريند" الله يخربيت التريند" الذي أفسد علينا حياتنا، وأزاح عنها ستر الخصوصية التي كفلتها لنا الدساتير، الذي تنص بعض موادها علي أن للحياة الخاصة حرمة، وهي مصونة لا تمس، كما يلزمنا ديننا الحنيف، بعدم الاعتداء علي الآخرين مصداقاً لقول ربنا سبحانه" ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" صدق الله العظيم، والاعتداء يا سادتنا هو إلحاق الضرر بالآخرين من غير وجه حق، وهنا ينبغي علي أن أسأل سؤال واحد مشروع في صميم هذا الموضوع  ...

أوليس في تصوير شخص ما في موقف يألم له، أو إظهاره علي هيئة لا يحبها، أو صورة لا يقبلها إلحاق للضرر به ؟!

و بالابتعاد عن الحديث في الأحكام الشرعية، أو القوانين الوضعية، مع الاحترام الكامل لكليهما، ولكن لنأخذ الموضوع من منظور إنساني ونقول ...

هل سأل المصورون أنفسهم ماذا سيكون شعور ابنتي الفقيدة السيدة دلال في كل مرة سيشاهدن فيها تلك الفيديوهات؟

وكيف سيتجدد إحساسهن بالحزن علي فقد الأم والأب من قبلها، مع كل مرة مشاهدة جديدة مهما مر الزمن أو طال؟!

ولو تحدثنا بشكل عملي، خالي تماماً من المشاعر وسألنا  ..

ما هي الفائدة العائدة علي المشاهدين، من مشاهدة العمارة السكنية كانت تقيم فيها الفنانة التي توفاها الله ؟!

ماهي الفائدة من تصوير مبني المشرحة، أو عربة نقل الرموتي، او النعش الذي يحوي الجسمان، ويحمله المشيعون؟!

ماذا سيستفيد المشاهد من لقطات انفعال بعض الفنانين علي المصورين؟!

 ماذا سيضيف لهم مشاهدةإنهيار الفنانة فلانة، أوبكاء الفنانة علانة، أو ركض الفنانة ترتانة، هرباً من عدسات الكاميرات؟

هل هي أحداث تاريخية هامة، كانت تستوجب التوثيق؟

أما آن الأوان بعد، لأن نعد لرشدناونستفيق؟!

وأخيراً نقول  .. رحم الله الفنانة دلال عبدالعزيز التي خرجت من ضيق الدنيا إلي إتساع رحمة الرب الرحيم  .