د. محمد فتحى عبد العال يكتب: فنتازيا الجائحة الجزء الأول

د. محمد فتحى عبد العال يكتب: فنتازيا الجائحة الجزء الأول
د. محمد فتحى عبد العال يكتب: فنتازيا الجائحة الجزء الأول

مقدمة :

إذا كانت الفانتازيا في الأدب هي الواقع المستحيل الذي لن يحدث  والخارج عن المألوف الذي يكسر قيود المنطق والمتعارف عليه ويجنح في ربوع الخيال ورحاب الأساطير والملاحم وفق قوانين مختلفة وشاذة .

لكن هناك محطات استثنائية في تاريخ البشرية قد تغزل من الواقع فنتازيا من نوع فريد لم يكن لأحد تصور حدوثها في عالم تحكمه التكنولوجيا الرقمية  والمعارف المتنوعة وهو ما حدث بالضبط مع جائحة كورونا المستجد كما نستعرض في هذه المشاهد الفريدة بين الشرق والغرب.

المشهد الأول :

جزاء الوفاء

كان الرسام الإيطالي (تيتيان) والذي رسم عددا من اللوحات لوجه الإمبراطور تشارلز الخامس فمنحه لقب فارس واحدا من رواد الفن الطبيعي في عصره .

كان لهذا الفنان موعدا للنهاية مع مرض الطاعون الذي اجتاح ارجاء أوروبا وكان قد تعدى التسعين من عمره وكان العرف السائد هو دفن موتى الطاعون في مقابر جماعية لكن الدور الفني البارز له استثناه من هذا المصير القاسي ودفن في دار عبادة.

ولا يوجد اسمى وانبل من مهنة الطبيب ودوره لهذا كان ملهما للفنانين حتى وهم على مشارف الموت ولعل من أشهر هذه اللوحات لوحة (الدكتور جاشيه) الأغلى في العالم و التي بيعت ب 148 مليون دولار .

وقد رسمها الفنان (فان جوخ) وفاءا للطبيب الذي اعتني به وتجسد الطبيب وهو غارق الذهن في نبتة قفاز الثعلب التي يستخلص منها عقار الديجيتالس الذي يعالج به فان جوخ.

وليس هناك ما هو أدل على هذا الدور السامي في هذه الظروف الاستثنائية في التاريخ البشرية مما أقدم عليه الطبيب الصيني الشجاع (لي وينليانغ) حينما اكتشف أثناء عمله في المستشفى المركزي بمدينة وهان إصابات متفاقمة ظنها بسبب فيروس( سارس) فحذر زملائه و السلطات المحلية في المدينة والتي لم تأخذ تحذيره على محمل بل اعتقلته بتهمة نشر شائعات كاذبة.

مات الطبيب (لي وينليانغ) جراء الفيروس الغامض الذي عرفه العالم اليوم بفيروس كورونا المستجد والذي اجتاح العالم بأسره. ومع تحقق الصين من صدق الطبيب الذي قدم حياته فداءا لرسالته قدمت اعتذارا رسميا لعائلة الطبيب الراحل وتعويضا ماليا قدره 820الف يوان صيني كما سحبت بيان الاعتقال بحقه.

وفي مصر فقد الطبيب المصري (محمود سامي ) بصره أثناء عمله بمستشفي العزل الصحي في مدينة بلطيم بمحافظة كفر الشيخ بسبب الإجهاد والتوتر  وفي مستشفى يورك التعليمي ببريطانيا أصيب الطبيب( باسم عناني )بشلل جزئي بعد إصابته بكوفيد 19 ومتلازمة( غيلان باريه) إحدى عوارض المرض النادرة وهو اضطراب عصبي ناتج عن مهاجمة جهاز المناعة للاعصاب الطرفية مسببا تلفا والتهابا مما يعرقل مهمة  الأعصاب من نقل الاشارات العصبية للمخ مما يؤدي في النهاية إلى التنميل أو الشلل.

وإذا تحدثنا عن حالات الوفيات في صفوف مقدمي الخدمة الصحية حول العالم من أطباء وتمريض وصيادلة  فهي في تزايد مضطرد.

ورغم كل هذه التضحيات ففي بعض المجتمعات ومع تقدم الزمن وتراجع منظومة الأخلاق فيها أخذت النظرة للاطقم الطبية و دورها  يتراجع فنجد في مصر تنمرا ونفورا من الأطباء والفرق الطبية التي وضعت حياتها فداءا للوطن فشهدت مصر العديد من حالات التنمر ضد أطباء وتمريض يعملون بمستشفيات العزل وليس هناك ما هو ابشع من تجمع أهالي قرية (شبرا البهو) التابعة لمدينة أجا في الدقهلية لمنع دخول سيارة إسعاف تحمل جثمان طبيبة قضت نحبها بكورونا خشية انتقال العدوى إليهم.

وهو ما يتطلب إعادة الوعي للمجتمع المصري فيما يخص الرسالة الطبية السامية وثقافة رد الجميل.

وعلى الصعيد الدولي كانت مصر سباقة في مد يد العون للدول الأخرى في مواجهة الجائحة فقدمت مساعدات للصين وإيطاليا والولايات المتحدة والسودان وغيرها.

وكان رد الجميل من الصين تجاه مصر حينما أرسلت مساعدات لمصر تحمل أبياتا لأمير الشعراء( أحمد شوقي) تقول :

 نصحت ونحن مختلفون دارا .. ولكن كلنا في الهم شرق

ويجمعنا إذا اختلفت بلاد .. بيان غير مختلف ونطق

المشهد الثاني :

كورونا ماي

كان الإنسان يرى أن هناك قوى غيبية تحرك الحياة من حوله وهي التي تصنع الخير والشر في محيطه وأمام عجز الإنسان عن مواجهة هذه القوى الطبيعية الخارقة من حوله سعى لمهادنتها وطلب عفوها ومغفرتها وأتخذها آلهة في رحلة الإنسانية الطويلة مع الدين وصولا لمعرفة الإله الواحد والوصول إلى حتمية التوحيد.

وقد كتب( هوميروس) شاعر الملحمتين الالياذة والأوديسا أن الإله أبولو  أله الطاعون والوباء وأله الشفاء أيضا قد أمر السماء أن تمطر الجيش اليوناني بسهام الطاعون .

كما ربط العلماء في عهد الملك( فيليب السادس ) ملك فرنسا بين حركة الأجرام السماوية وخسوف القمر في ذلك التوقيت وبين انتشار الطاعون الدبلي.

والطريف أن بعض القبائل والجماعات  في الهند في عصرنا الحديث لا زالت تسير على نفس النهج فقد اقامت بعض نساء الهند في ولاية (أوتار براديش)  معبدا لفيروس كورونا المستجد وأطلقوا على معبودهم الجديد (كورونا ماي) وتقضي الطقوس للمعبود الجديد بتقديم حفرة بها تسعة كرات من الحلوى وأخرى من القرنفل.

كما تجد بعض التفسيرات الدينية الغير مستندة إلى منطق طريقها في أزمنة الجوائح.

فنجد سؤال السلطان المملوكي الاشرف برسباى -وقد انتشر الطاعون في مصر في زمانه الي درجة موت اربعة وعشرين الفا كل يوم- للفقهاء والعلماء فى مجلسه : هل يعاقب الله الناس بالطاعون بسبب ذنوبهم؟ فأشاروا عليه: إن الزنا إذا فشا فى قوم ظهر فيهم الطاعون، وأن النساء يتزيّن ويمشين فى الطرقات ليلاً ونهارا فأصدر السطان برسباى من فوره قرارا بمنع النساء من الخروج من بيوتهن الي الشوارع والطرقات حتي يتوقف الطاعون بالبلاد !!! غير انه سرعان ما أصيب برسباي نفسه بالطاعون.

وعلى غرار هذه الحادثة صدرت فتاوى غريبة تفسر ظهور كورونا كنتيجة لمنع النقاب ببعض الدول الاوروبية فيما فسرته بعض الفتاوى انه انتقام إلهي من الصين لاحتجازها نحو مليون شخص مسلم من أقلية الإيغور في "مراكز مكافحة التطرف وإعادة التأهيل" وكأننا لسنا في جائحة عمت العالم المسلم وغير المسلم.

المشهد الثالث :

ذكر أم أنثى

لعل من ألطف ما شغل الفرنسيون في خضم الاصابات والوفيات جراء كوفيد-19 هو تحديد جنسها من حيث كونها مؤنث أم مذكر؟!

حيث حسمت الأكاديمية الفرنسية المنوط بها حماية اللغة الفرنسية ضد إضافة كلمات من اللغات الأخرى وتحديد جنس الكلمات  فانتصرت لانوثة الفيروس المستجد!! وحددت بشكل جلي أن  فيروس كورونا لا يكتب "le Covid-19"،، وإنما "la Covid-19" باستخدام التعريف للمؤنث.

وقد حذت الأكاديمية  الملكية الإسبانية نفس الحذو في التعامل مع الكلمة من حيث التأنيث.

المشهد الرابع:

أنظمة في مواجهة كورونا 

اتسمت إدارة الرئيس الأمريكي ( رونالد ترامب) ببعض التراخي فيما يتعلق بسبل مواجهة جائحة كورونا المستجد ومع اتساع رقعة تفشي المرض لتصبح الولايات المتحدة الأمريكية الأعلى إصابة في العالم شهدت العلاقة بين الولايات المتحدة ومنظمة الصحة العالمية أزمات عدة على إثرها علقت الولايات المتحدة مساهمتها المالية للمنظمة معللة ذلك بسوء الإدارة وعدم التقدير المناسب للجائحة والمعلومات الخاطئة حول انتقال العدوى والوفيات.

وعلى صعيد متصل شهدت العلاقات الإمريكية الصينية شد وجذب فيما يتصل بالمسؤولية عن تفشي الجائحة والتعتيم الصيني عن حجم الكارثة فهددت الولايات المتحدة الصين بفرض عقوبات عليها.

ويعد الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) من أكثر الرؤساء الذين أطلقوا تصريحات مثيرة للجدل والسخرية فكان حماسه لدواء الهيدروكسي كلوركين كعلاج لكورونا المستجد سببا في وفاة مواطن أمريكي في منطقة (فينيكس )بولاية أريزونا الأمريكية ودخول زوجته الرعاية الطبية حينما تناولا الكلوروكين من تلقاء أنفسهم عملا بوصفة ترامب ومخالفة للنصائح الطبية بعدم التسرع قبل إتمام الدراسات والتي توصلت في النهاية لعدم جدوى هذا العلاج وآثاره الجانبية المتعددة.

ثم كان حديث ترامب للصحفيين من إمكانية حقن الجسم بمواد معقمة فالمعقمات تقتل الفيروس في دقيقة وهو الأمر الذي أثار سخرية واسعة في الاوساط الطبية والعلمية.

ومن الولايات المتحدة الأمريكية إلى البرازيل الثانية عالميا في معدل الوفيات بكورونا المستجد بعد الولايات المتحدة فقد سخر الرئيس البرازيلي (جايير بولسونارو) من الفيروس في البداية معتبرا إياه تضخيم اعلامي وفي اسوء الأحوال لا يعدو كونه انفلونزا بسيطة  وطالت سخريته قواعد التباعد الاجتماعي والإغلاق ومع تفشي الفيروس في البلاد واصابته به شخصيا لم يتخل عن روح اللامبالاة وانه بإمكان مواطنيه اللعب بمياه الصرف الصحي دون الخشية من العدوى وان الجميع سيموت في النهاية فلا يجب أن تكون بلاده بلد مخنثين  بحسب تعبيره المبتذل!!

أما أفريقيا التي لا تفارقها الفيروسات المستجدة فقد شهد التعامل مع الفيروس من جانب بعض الرؤساء الأفارقة مفارقات شديدة الطرافة فالرئيس التنزاني (جون ماجوفولي) مثلا قرر أن يرتدي ثياب الباحث العلمي !! ورفض استخدام أجهزة فحص فيروس كورونا المستجد حيث أجرى تجربة عليها بنفسه للتحقق من جودتها فأرسل عينات غير بشرية من ثمرة البابايا وعنزة وخروف بأسماء و أعمار لآدميين فكانت النتائج إيجابية الإصابة بالفيروس لهذه العينات.

وفي أوغندا تقمص الرئيس الأوغندي (يوري موسيفيني) دور رجل الدين الواعظ في بلاده بعد ثلاثة عقود من حكمه لبلاده فأعلن أن الرب قد أمره في المنام أن يقيم يوما وطنيا للصلاة في بلاده!! لصرف خطر الفيروس المخيف.

أما في مدغشقر فقد اتخذ الرئيس (اندريه راغولينا) رداء عالم الأعشاب فأعلن في مؤتمر صحفي عن شراب عشبي من الشيح لعلاج كوفيد يمكنه أن يغير تاريخ العالم بأسره وظهر في المؤتمر وهو يحتسي من شرابه المعجزة ووزع الجيش المشروب الجديد على المواطنين في بلاده في زجاجات بلاستيكية معاد تدويرها!! .

المشهد الخامس :

حيوانات متهمة

كان المتهم الأول في التسبب في هذه الجائحة الخطيرة هو: الخفاش وسارت دعوات لابادته وتهجيره  لكن هذه الدعوات لم تجد من يلبيها لما في ذلك من اضرار على التوازن البيئي فروث الخفافيش يستخدم كسماد لاحتوائه على مواد عضوية تزيد من نمو وجودة محاصيل الخضروات والفاكهة علاوة على ذلك  فالخفافيش تقتات على أربعة عشر ألف نوع من الحشرات الناقلة للأمراض والمضرة بصحة الإنسان وبالتالي قد تحمل امراضا مثل الملاريا وحمى الضنك وتهجيرها من موطنا قد يسهم في نشر الأمراض.

المتهم الثاني : هو آكل النمل الحرشفي او البنغول وهو من الحيوانات المشرفة على الإنقراض ويتم الاتجار به بشكل غير شرعي في الطعام والطب الشعبي

المتهم الثالث :هو حيوان المنك والذي تشير الدراسات إلى انتقال العدوى إليه من الإنسان وهو بدوره نقلها مرة أخرى إلى البشر مما أدى إلى ارتكاب مجزرة بحقه طالت خمسة عشر مليونا بالدنمارك لخشية وزارة الصحة الدانماركية من السلالة الجديدة التي أطلقت عليها البؤرة 5 والتي لا تثبطها الأجسام المضادة بنفس الطريقة كالفيروس العادي مما يمثل تحديا لفاعلية أي لقاح يجري تطويره حول العالم.

 

 

 

د. محمد فتحي عبد العال

كاتب وباحث مصري