حسنى حنا يكتب: جزيرة أرواد ....جوهرة الساحل السوري (1)

حسنى حنا يكتب: جزيرة أرواد ....جوهرة الساحل السوري (1)
حسنى حنا يكتب: جزيرة أرواد ....جوهرة الساحل السوري (1)

المسيحية.. نشأتها وانتشارها (إطلالة تاريخية)

"إن العقل البشري مهما تقدم، فإنه لن يسمو فوق آداب وقيم المسيحية"

*غوته Goethe

 

في مطلع العام الأول للميلاد، ولد ذلك الذي قسم التاريخ إلى عصرين..

وكانت الأضواء مسلطة آنذاك على روما Roma سيدة العالم وعلى العرش المتألق، الذي أقامه أوغسطوس قيصر Augustus Caesar قبل حين.

ولم يكن المؤرخ ليحفل بوجود طفل، في ولاية نائية من الامبراطورية، جمع بعض الأتباع حوله، وعلم وبشر، وشفى وصلب بسبب معتقداته. وقد ظهر شاب معاصر في الوقت ذاته من مواطنيه، هو فلافيوس يوسيفوس usFlavius Juseph الذي خصص لهذا (الرجل الحكيم) و(صانع الأعمال الخارقة) كما قال عنه شذرة صغيرة تنتهي بهذه الملاحظة: "وجماعة المسيحيين التي سميت بالنسبة إليه ليست منقرضة اليوم" والمؤرخ اللاتيني الوحيد، الذي يذكر المسيح Christ هو تاكيتوس Tacitus ،يشير بصورة عرضية بأنه : "تعرض لعقوبة الموت في عهد طيبريوس Tiberius بموجب حكم الحاكم بيلاطوس البنطي Pontius Pilat

ومع ذلك.. فإن الذين كانوا أقرب الى المسيح، في الجليل واليهودية، وعرفوه جيداً، أصبحوا مقنعين بأنه لم يكن شخصاً عادياً، بل (ابن الله The Son Of God) وقد بدلوا طريقة حياتهم حالاً وكما فعل المسيح، لم يترددوا في بذلها في سبيل معتقداتهم، كما اهتم بعضهم بتسجيل تعاليم سيدهم وأعماله. وهكذا وصلنا (الانجيل Gospel) بحسب متى ومرقص ولوقا ويوحنا، وهو مصدرنا الرئيس عن حياة المسيح، وقد قدر لذلك الدين الجديد، أن يبقى طويلاً، بعد أن سقطت الامبراطورية الرومانية (476م) التي كانت تبدو راسخة ومستقرة وبعد أن أصبحت في أسفار التاريخ. وقد دام هذا الدين أكثر من أية فلسفة وعقيدة أخرى، في بلاد اليونان والرومان وبالتالي في العالم أجمع. والانسان لايستطيع أن يجد في أي مكان آخر ، مثل هذه الخلاصة المحكمة، من الأفكار النبيلة، وهذا التأكيد على المثل السامية. كما أنه ليس باستطاعة أحد أن يكتشف في أي زمن، طبق ماعمله بمثل هذه الصورة الكاملة.

 

أسس المسيحية ومبادؤها

كان أساس هذه الرسالة الجديدة (المحبة Love) محبة الله، ومحبة الانسان. والمحبة الواحدة تفترض الأخرى. والله نفسه محبة. وبالمحبة جعل المسيحيون الانسانية عائلة واحدة، تحت أبوة واحدة وهكذا وضعت المسيحية الأولى، مثلاً عالمياً أعلى. بخلاف المثل الأعلى الإقليمي، الذي كان يسود في كل مكان.

وكان اليونان والرومان، يفكرون بالانسانية، على أساس القومية، بينما المسيحيون السوريون كانوا أول من أعطى العالم نظرة عالمية فعالة. ولم تكن نظرتهم الى العالم بأنه كسب يجب الحرص عليه، ومجتمعهم لم يكن له طموح دنيوي. وكانت المسيحية في جميع تعاليمها تؤكد على واجب تكريس الانسان نفسه لله. بصورة لاتعرف الأنانية وعلى خدمة الانسان، وعلى الروحانية الداخلية عوضاً عن الطقوس والمظاهر الخارجية..

لم تتخذ أي من العقائد الهلنستية (المحبة) كفلسفة أساسية لها و(الرواقية Stoicism) وهي مدرسة فلسفية، أسسها الفيلسوف الفينيقي (زينون xenon) في القرن الثالث قبل الميلاد، وحدها حاولت السير في عذا الاتجاه.

ولم تعلم أية عقيدة سابقة، بأن هناك إلهاً (فادياً Redeemer) يهتم بكل أفراد الجنس البشري. كما أنه لم تكن لأي منها رسالة حيوية، تتجه للفقير والمنبوذ، وللعشار والخاطئ. وقلما أثرت أية ديانة وثنية على الدوافع الداخلية للسلوك والحياة. فقد كانت كلها تهتم بصورة رئيسية بالطقوس. ولم توجد أية منها، مثل ذلك الأرتباط الفعال بين الدين والأخلاق. أو تخصص مثل ذلك الاهتمام للحياة الثانية كما فعلت المسيحية.

قرنت المسيحية الحياة الأخلاقية بالدين بصورة وثيقة، فأصبح الاحسان عندئذ من أعمال الإيمان. بدلاً من أن يكون من أعمال العدل. وقد أعطى الدين الجديد للمضطهدين الأمل في حياة ثانية، تقدم للأبرار السعادة التي حرموا منها في الحياة الدنيا. وكان اليونان والرومان يمنحون الخلود، لمن كان محسناً لشعبه فقط.

وكان الدين الجديد، في مجموعة أفكاره وتعاليمه الأخلاقية وفلسفته في الخلود، وعقيدته الراسخة قادراً –على مايبدو- على تلبية المطالب الروحية والفكرية والاجتماعية، التي كان المتنورون غالباً يتطلبونها، في دياناتهم التقليدية في كل مكان، بدون أن ينجحوا في الحصول عليها.

ثم أن الكنيسة في تنظيمها كمؤسسة وضعن أساليب فاقت كثيراً، كل ماوضعته الديانات الأخرى وقد شق هذا الدين السوري طريقه ببطء، ولكن بصورة أكيدة، الى مرتبة التفوق الروحي. وبهذا الدين أتت الحضارة السورية. بمآثرتها الثالثة –بعد الأبجدية والتشريع- وهي أعظم مآثرها، في سبيل تقدم العالم. والعالم المتمدن لايقدر دائماً بأن التعبير الأساسي عن أعلى مثله كان في الأدب المسيحي

 

 

تقدم المسيحية

في سوريا أرسيت الأسس، التي حددت الى أمد بعيد، المسيرة اللاحقة للتاريخ الأنساني.

بعد موت المسيح وقيامته وصعوده الى السماء، ذهب تلاميذه ليبشروا بالانجيل، وكلمة الله في أنحاء العالم محتملين كل أنواع المشقات. وكان تقدم المسيحية بطيئاً أول الأمر. ولم تستلفت إمكانيات الدين الجديد أنظار الناس بوجه عام، حتى زمن الأمبراطور تراجان Trajan (53- 117م).

وعندما أعلنت المسيحية تحديها للديانات القديمة قام الكتاب اليونان واللاتين يحاربون الدين الجديد. وكانت الديانات القديمة بالنسبة لهؤلاء الكتاب تقترن بالأمجاد الماضية للتاريخ القومي. وكانت بالنسبة للرومان بصورة عامة، رموزاً للسلطة الامبراطورية.

الإضافة الى ذلك، فقد بدت بعض مظاهر الدين الجديد غريبة على الفكر اليوناني- الروماني. لكتاب قاموا بإعطاء المسيحية شكلها الهلليني وجعلوها ملائمة للانتشار في العالم.

وكان بولس الرسول يعرف اللغة والفلسفة اليونانية واستعمل التعابيير والمصطلحات الفلسفية وبفضل الطريقة التي انتهجها تم التفاهم بين الديانة المسيحية والحضارة اليونانية، وأتخذت المسيحية طابعاً هللينياً، قبل أن تصبح مقبولة لدى الرومان واليونان.

وقد عملت كل الظروف لصالح المسيحية، ولكن قبل أن يتأكد لها النصر، كان على أتباعها المتمسكين بها أن يتعرضوا لنار الاضطهاد.

 

اضطهاد المسيحيين

كان المسيحيون الأوائل نشطين ومتحمسين، في بحثهم عن أتباع جدد لديانتهم. وقد امتنعت جماعتهم عن الأشتراك في الاحتفالات الرسمية والدينية والوثنية. وكان لابد أن يؤدي هذا الى الصدام.

حصل أول اضطهاد عنيف ضد المسيحيين في عهد الأمبراطور نيرون Nero بمناسبة حريق دمر قلب روما عام (64م) كان حادثاً من حوادث لهوه الجنوني. وعندما ارتاع نيرون من ذلك، حاول إلقاء التهمة على المسيحيين في العاصمة روما. وأمر بابادتهم جميعاً. وفي عام (67م) صدر حكم على القديس بولس بالموت لكونه مسيحياً. ويبدو أن القديس بطرس استشهد بالصلب في روما، في نفس الوقت الذي استشهد بولس بالسيف، وقد قتل كثيرون في نفس الوقت.

وحدث الاضطهاد التالي في عهد الامبراطور دوميتيان سنة (95م) أما الاضطهاد الكبير فقد حدث في زمن الامبراطور ديوكليتيان في القرن الرابع الذي عزم على محو كنائسهم. وحرق كتيهم وطردوهم من مناصبهم. وأصدر مرسوماً بذلك في عام (303م) وقد استمر هذا الاضطهاد مدة عشر سنوات بشدة لايعدلها شيء. وتم ابتكار وسائل جديدة للتعذيب، منها الذبح بالفأس والحرق بالنار والالقاء الى الوحوش الجائعة. في ساحات المسارح العامة..

ولكن بعد سنوات قليلة، أصبحت المسيحية في عهد الأمبراطور قسطنطين الكبير 306- 337 م الديانة الرسمية للدولة. وكان اضطهاد ديوكليتيان آخر اضطهاد في عهد الامبراطورية الرومانية.

 

 

الامبراطور قسطنطين والعهد البيزنطي

في عهد الامبراطور قسطنطين الكبير، الذي جعل من القسطنطينية عاصمة لامبراطورية بعد سقوط روما بيد البرابرة (ايلول 476م) صارت المسيحية الديانة الرسمية للأمبراطورية، وسيطرت الحضارة اليونانية على فكر الرومان، كما سيطرت سوريا على نفوسهم. وقد كان العصر البيزنطي عصراً فريداً في التاريخ، سيطرت عليه الصفة الدينية. وكانت أبنية الكنائس والأديرة تنتشر في البلاد ونشطت زيارة الأماكن المقدسة.

وفي مطلع القرن السابع تعرضت أجزاء من الأمبراطورية للغزو العربي. وسقطت سوريا ويلاد النهرين ومصر وشمال أفريقيا بيد الفاتحين الجدد كما تعرضت لاحقاً لغزوات الفرس والمغول والسلاجقة والأتراك العثمانيين.

 

 

انتشار المسيحية

انتشرت المسيحية في جميع بقاع الأرض. وخلال أقل من قرن واحد بعد المسيح. وجدت جماعات مسيحية في الهند والصين بفعل التبشير.

وطبقاً لرواية الكتاب المقدس. فإنه بعد صعود المسيح الى السماء بدأ تلاميذه بنقل البشارة الى كافة أنحاء العالم. ويقدم سفر أعمال الرسل بعض المحطات التاريخية في حياة الجماعات المسيحية الأولى. والتي أخذت أعدادها بالنمو والأزدياد. وخلال عشرين عاماً وجدت جماعات مسيحية في سوريا وآسيا الصغرى. ومصر واليونان وايطاليا وغيرها.

وانتشرت الكنائس في الريف كما في المدن وأخذت المؤسسات الكنسية كالأبرشيات تأخذ شكلها المعروف. وتكاثرت المدارس اللاهوتيه لاسيما في أنطاكيا والاسكندرية ونظمت مؤسسة الرهبنة.

وكات الحدث الأابرز في العصور الوسطى، اكتشافا العالم الجديد في عام (1492م) وغالباً ماكانت الحملات الاستكشافية تتم بمباركة الكنيسة التي تمكنت من تأسيس مراكز لها، في الأصقاع المكتشفة حديثاً في الشرق الأقصى وأفريقيا وأمريكا واستراليا.

وفي العصر الخالي صارت المسيحية ديانة كونية وأكبر دين معتنق في العالم إذ يبلغ عدد أتباعها (2.4) مليار أي حوالي ثلث البشر، وهي دين الأغلبية السكانية في (126) بلداً في العالم من أصل (197) بلداً.

 

 

المسيحية في المشرق اليوم

لم تصمد المسيحية في بلدان المشرق بفضل حمل السلاح ولا باللجوء الى حماية دولة أجنبية. إنما بقيم القدوة والمثال التي جسدتها إيماناً وتعليماً ومجتمعاً وثقافة وبالانفتاح على الآخر وترسيخ مفهوم المواطنة الحقيقية للجميع والدفاع عن مصالح الوطن.

والمسيحية في الشرق تتفاعل مع الحياة والعلم . تعمل مع المجتمع لا ضده، تمجد الرقي ولاتلعنه، تدعوا الى الحياه لا إلى الموت.

وتتطور مع العلم والزمن. وتعرف كيف تستخدم الدين في تنشئة الفرد وبناء الوطن.

إن الدين يتفاعل مع الحياة والعلم، ويعلم أن حيويته متوقفه على استمرار التطور فيه. بحيث لايقف والفكر يتقدم. لأن الحياة تتقهقر حين يخف حماس الناس لها، وحين يتضاءل اهتمامهم بها.

 

 

المسيحيون في الشرق

ز وعلى الرغم من الرياح الهوج التي عصفت وتعصف بهم، اعتصروا الحكمة من تجارب التاريخ. وصمدوا مئات السنين وكأنهم شهود على حركة الأيام وتقلباتها وقيام الحضارات وسقوطها ولكثرة ماخاضوا من التجارب وصمدوا أمام التحديات ياتوا على علم بما تكنه الأيام وماتحمله الليالي.

أص