إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء 14)

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء 14)
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء 14)

(14)

       تحين الجوكر الوقت المناسب ليقدم خالد إلى حامد النجار ، وقف خالد ككلب وفي ، قام الجوكر بواجب التعارف ، لم يحظ خالد بأي اهتمام إلا بعد أن أسند له الجوكر شرف الانتماء للنجمة الشهيرة ناديه كرم ، تساءل حامد النجار كيف تكون أخته وهو يدعي خالد جاد الكومي والممثلة الشهيرة تدعي ناديه كرم ، سارع الجوكر بالتوضيح بأنه أسم الشهرة . بناء على غمزة من عين الجوكر ، بسط خالد يديه للأمام كمستجدي يقف على قارعة الطريق ، يطلب من حامد النجار أن يوليه الشرف الكبير ، بتشريفه للحفل الذي سيقيمه بمناسبة شرف قبوله للعمل في مكتبه ، أكمل الجوكر باقي المسرحية قائلا :

_ الباشا لا يقبل الدعوة للحفلات العامة .

أجاب خالد كتلميذ استذكر الدرس جيدا :

_ أنها ليست حفلة عامة وستكون مقتصرة على معالي الباشا وأفراد الأسرة فقط .. ومن يرغب الباشا في دعوتهم .

قال الجوكر مستمرا في دور القواد .

_ الباشا يحب الفن والفنانين وسيسره أن يتعرف على النجمة ناديه .

_ بالتأكيد أختي يسرها أن يكون لها شرف التعارف على معالي الباشا .. قالها خالد وهو يضغط على كلمة اختي ، لينال الرضا التام ، بعد أن شاهد التغير الملموس في أسلوب حامد النجار ، بعد أن علم قرابته للنجمة ناديه .

 قهقه حامد النجار بصوت ارتجت له الغرفة وهو ينظر إلى الجوكر ويقول :

_ كيف استطعت بمثل هذه السرعة ، أن تحول من خالد إلى نسخة منك ؟!

_ أنه تلميذ نجيب يا باشا ، وكل من يعمل معكم يكون له شرف خدمة معاليكم دائما .

قال حامد النجار بلهجة من يمن عليه :

_ شكرا يا خالد وتأكد أنه عندما يحين موعد الحفل سأكون حاضرا .

_ شرف كبير من معاليكم .

استأذن الجوكر من حامد النجار ، خرج يجر في أذياله خالد ونظرات حامد النجار تلاحقهما مرددا في داخله:

_ كلاب أولاد كلاب .. الآن تنحنون أمامي ، ولو تبخرت السلطة من بين يدي تبصقون على وجهي .

كانت مشكلة خالد في الحفل الذي يود أن يقيمه في قصر أبيه شيء واحد فقط ، هو كيف يقنع اخته نادية بحضور الحفل . ليس أمامه سوى أن يذهب إليها يرجوها أن تكون نجمة الحفل ، لكن سيزيد المشكلة وجود رشاد معها ، حتى لو قبلت هي الحضور ، رشاد لن يرضخ وسيؤلبها عليه ، لا بد من المحاولة بأي طريقة.

 استقبلت ناديه أخيها خالد بالدهشة ، تعلم جيدا أن زيارته ليست اشتياقاً لها أو لأخيه رشاد ، معروف عنه الأنانية المستعصية ، انتهازي لأبعد الحدود ، العاطفة ليست لها مكان في قلبه ، لا يدين بالولاء إلا لمن بيده مفتاح طريق الوصول  للمركز والسلطة . كفاءته في العمل لن تصل به إلى مبتغاه ، فليسلك الطرق السهلة بالنسبة لأمثاله ، يضع كرامته في جراب ويلقي بها في الماء . الشرف كلمة لا معنى لها لا يتمسك بها إلا الأغبياء ، الموضة هي عش بلا شرف تنفتح أمامك الأبواب . المثل يقول إذا كان رب البيت بالدف ضاربا فشيمة أهل البيت الرقص ، أبوه خير من يضرب على الدف ولن يتركه من يده حتى آخر يوم في حياته ، هذه هي لعبته المفضلة التي يجيدها . لم تخف عليه النظرة التي لعبت في عين أخته ، عندما رأته يتصدر الباب وهي تقول بكلمات ساخرة :

_ هل اشتقت إلى اختك واخيك فأتيت للسؤال عنهما ؟!

أجاب خالد منافقا :

_ ومن لا يشتاق إلى أخت جميلة ونجمة مشهورة كأختي .

قالت ناديه مختصرة الطريق :

_ خالد .. ألا تريح نفسك وتريحني وتخبرني مباشرة عن سبب زيارتك .

قال خالد مستمرا في النفاق :

_ ذكاؤك دائما يبعث على الاحترام .

_ حسنا ما دمت تقر بذكائي فخبرني ، ماذا أستطيع أن أقدم لك يا حضرة الضابط!!

_ لا أطلب سوي الخير لك .. وأن تكوني نجمة الحفل الذي سأقيمه في قصر أبي .

سألت ناديه متشككة :

_ وبأي مناسبة تقيم هذا الحفل .

_ آه يا أختي .. ألا تعلمين أن أخاك نال ترقية ونقل للعمل في مكتب حامد باشا النجار

قالت ناديه وقد انكشف مقصده .

_ وبالطبع سيكون حامد باشا النجار هو ضيف الشرف في الحفل ..أليس كذلك ؟..

قال خالد بلغة القواد الصغير :

_ أنه شخصية محترمة وظريفة .. وقد يخدمك بمركزه ونفوذه .

قالت ناديه متهكمة :

_ وأيضا له سيرة عطرة في عالم النساء والفساد .. أليس كذلك؟

قال مستعطفا :

_ هذه حياته .. ونحن لسنا مسئولين عن سلوكياته .. حضورك الحفل ليس أكثر من مساندة لأخيك ، تساعده للأرتقاء لمنصب أرفع .

_ وبالطبع لكي تكون هذه المساندة ذات فعالية ، لا بد أن أكون ظريفة ولطيفة معه .. ثم أردفت بجدية .. أسمع يا خالد أنت تعلم جيدا إنني لن أسلك هذا الطريق الذي ترمي إليه ، أعتقد أنه من الأفضل أن تصل لطموحاتك بكفاءتك ، وليس بالتسلق على أكتاف الشرف المهدر.

قال خالد مصراً على عدم اليأس :

_ لا تفهمي الأمور خطأ يا اختي .. فأنا لست كما تظنين .. كل ما في الأمر أردت أن أتشرف بوجودك في الحفل .

تعقد الموقف بخروج أخيه رشاد من الغرفة والغضب يغطي عينه وقائلاً :

_ ألا تستحي يا أخي .. ثم متهكما .. يا حضرة الضابط .. أن تجذب أختك لطريق الرذيلة .. ألا يكفي ما تفعله أمنا تحت سمعكم وبصركم .. ألا يكفيك أنك أخفيت جريمة أخيك الذي طعن صديقي رمزي .. أيها المسئول عن الأمن .

قال خالد والحنق يملأه وهو يتقدم من رشاد :

_ ومن الذي دعاك للتدخل أيها الثرثار .

 قفزت ناديه لتحيل بينهما وقد تنقلب الأمور لعاقبة سيئه ، رجت رشاد أن يذهب إلى غرفته ويتركها تقرر أمورها بنفسها . أنصاع رشاد وهو يرمي خالد بنظراته النارية . أرادت ناديه أن تنهي الموقف فنظرت إلى خالد قائلة :

_ أترك لي فرصة للتفكير وسأتصل بك بالهاتف .

قال خالد بلهجة منكسرة :

_ أرجوك يا أختى ألا تخذلي أخاك ، وأعدك بأن الحفل سيكون على مستوى عال من الاحترام ، وأعدك بهذا !!.

قالت ناديه شبه واعدة :

_ أترك لي تدبر الأمر دون أن يعلم رشاد .

*********

    أخطأ عطوه الجزار عندما أطلق المثل الذي يقول " ضع القدرة على فمها تطلع البنت لأمها " خلف ناديه وهي تسير أمامهم في الشارع الضيق . في منزل الكومي أنقلب الحال ، يبدوا أنهم لم يضعوا القدرة على فمها فجاء الولد لأمه . اثنان على نفس الطريق ، طريق الوصول إلى الهدف من أقصر الطرق ، أقصر الطرق بالنسبة لهما هو إهدار الكرامة ، وجعل الشرف لقمة سائغة في فم من يريدون تحقيق المصلحة معه ، أمه باعت شرفها تحت سمع وبصر زوجها الكومي في الأيام الأولى من زواجهما ، للوصول للمال والغنى ، واستمرأت الطريق حتى بعد أن حققت ما تريد . أصبحت تجد متعة وكلاب الرجال يلهثون خلفها ، تموت أن لم تستمع لكلمات الغزل في الحفلات التي كانت تقيمها بمناسبة وغير مناسبة لتجمع الرجال حولها . خالد ابن أمه ، شرب من ثديها كل صفاتها ، لم يعنيه شرفها أو حتى شرف اخته ، الاثنان يجب أن يتعاونا في إرضاء حامد النجار ليفوز باهتمامه .

الجوكر أول من افتتح الحفل ، ليعد كل شيء بما يتناسب مع مزاج حامد النجار . حضر حامد النجار وكل شيء معد وفق هواه . القلق بدأ يساور خالد ، اخته لم تحضر بعد ولا أحد يجيب على الهاتف في منزلها .

همس النجار مقهقهاً في أذن الجوكر بعد أن رقصت الخمر برأسه :

لم يخب ظني فيك أبدا يا ابن الكلب ، قهقه الجوكر قهقهة السعادة ، النجار لا ينعم عليه بهذا اللقب إلا إذا كان راضياً عنه تماما الرضا . خالد له وجهة نظر أخرى ، ينظر إلى أمه على أنها طبق المشهيات الذي سيقدمه لحامد النجار ، لحين حضور الوجبة الدسمة ، اخته ناديه . الوقت يُسرع ولم تحضر بعد ، مال على أمه يشكو أخته ،  نظرت الأم إليه كناكر للجميل ، تقول عينيها .. يالك من جاحد ، ألا يكفيك أمك وسحرها على الرجال . قبل أن يجيب خالد ، هلت ناديه كالبدر الذي غافل الغيمة وطل من خلفها ، التوت أعناق الجميع نحوها ودوى المكان بالتصفيق ، سارع خالد يمسك بيدها ليقدمها للجميع وكأنه يمسك بسيف النصر ، كل شيء فيها ينطق بجمال غير عادي واحترام فوق عادي ، فستانها المحتشم الذي يخبئ أسفله كنوزها الأنثوية كان أكثر إثارة من العري  ، كانت كالعطر المعتق يفوح أريجه حتى وهو حبيس علبته ، يُفعم المكان بعبق غامض يدير الرؤوس . أحست ناديه بعينيه تودان اختراق الحواجز ، سهام نظراته تنكسر وتتساقط أسفل قدميها ، نظرات الكبرياء والتعالي نكأت الجرح القديم في قلبه ، أيقظت سر مأساته ، مأساة حامد النجار كانت تكمن في صفعتين طار لهما صوابه ، الأولى وهو في مرحلة الطفولة وأمه تحتضن الخيانة في فراش أبيه ، والثانية عندما تقدم في بداية حياته وهو مرفوع الرأس ليخطب فتاة لم يكن بينه وبينها سوى نظرة ، خيل إليه أنها ممتزجة بابتسامة تشجيع ، لكن أبواب القصر الذي كانت تقطن فيه مع عائلتها ذات المركز الاجتماعي المرموق ، أُغلقت في وجهه قبل أن يطأ عتبته ، نزفت عروق كرامته كل دمائها خارج أسواره، قرر أن يعيش بدونها، تسلق على الأكتاف للوصول إلى هدفه ، تعقدت بداخله كل خيوط النساء وقرر الانتقام منهن ، يرى في اختلائه بأي امرأة بعد أن يلعب في جوفه الخمر أنه انتصار على نساء العالم ، حتى لو كانت هذه المرأة من فئة نساء الليل . ضغطت نظرات ناديه على جرحه وآلمته بشدة ، يجب أن يصل إليها . بعد أن يقضي وطره منها، سيركلها بقدمه ، يقول لها بأن كل ما وجده في جسدها لا يختلف عن باقي النساء فلماذا التعالي ؟ . سيقول لها أن نساء العالم كله يجب أن يجتمعن في ماخور واحد فهو أفضل مكان لهن ، خلق الله النساء ليتمتع الرجال بهن ، لماذا خُلقت حواء من ضلع آدم ؟ خلقت من لحم وعظم ليأكلها الرجل بالهنا والشفا ويعيد ضلعه لمكانه ، يأكل اللحم ويمصمص العظم ، لا بأس من ضلع واثنين وثلاثة . فاق من أفكاره المريضة على نظرات نادية التي تبدلت من التعالي إلى الاحتقار ، تبعثرها على الوجوه التي سلختها حرارة الخمر وهي في طريقها للباب دون أن تنبس بكلمة واحدة ، ساخطة على مجون أمها ، وشارب والدها المستقيم الملطخ بالذل.

 لم يرض الجوكر عن سلوك نادية ، ووجه نحو خالد نظرة توبيخ .

 

 

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

**********************