إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة الثامنة)

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة الثامنة)
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة الثامنة)

     طرقات على الباب تململ لها الراقد كما ولدته أمه فوق الفراش ،  تتوسد ذراعه عارية مثله ، كل شيء حولهما يوحي بما حدث خلال ليلة يمكن أن يُطلق عليها فوق الحمراء . عادت الطرقات مرة ثانية ، قذف لسان النصف نائم بمجموعة من الشتائم والسباب .. عادت الطرقات للمرة الثالثة ، تجهم وجه المستيقظ قسرا وهو يري خيوط الشمس تحاول أن تنفذ من فرجة في الستار .. لم يجد الطارق وسيلة سوي أن يدعم الطرقات بصوته :

_ حامد بك الساعة الثانية عشرة ، لم يتبق على موعد الاجتماع سوى ساعة واحدة . امتدت يد حامد بك ، جذبت الملاءة ، ألقت بها فوق جسدها البض ، لم يهتم إن كانت الملاءة قد سترت الكثير أم القليل ، نادى على الطارق :

_ أدخل يا جوكر .

فتح الجوكر الباب ، تسلل إلى الداخل بطريقة من اعتاد على عمله ، تسبقه ابتسامة قواد مخضرم ، لم تطرف عينه وهو يري الملاءة المرتفعة المنخفضة وخضم الشعر الذهبي الملقى على الوسادة ، نظر إلى الجسد العاري وقد انكمشت الملاءة  دون حياء وقال :

_ أنا آسف يا باشا .. أنت الذي أكدت بأن أوقظك حتى لو اضطررت أن أحملك من الفراش ، اجتماع اليوم هام ، وسيحضره عدد من الشخصيات الهامة .

_ ملعون أبو الاجتماعات وأبو الشخصيات معا .. اعد لي الحمام وكوب كبير من القهوة .

_ سريعا سيكون كل شيء معد يا باشا .

حامد النجار شخصية تتكرر في كل زمان ، أخطر من اعتلى المناصب السياسية .. داهية من الدواهي التي ليس لها حل .. لا يعوقه عن تنفيذ مآربه عائق .. إيمانه في الحياة لا يخرج عن المال والنساء وسهرات الفجور ، من أشد أسرار نجاحه أنه لا يدع يساره تعرف ما تفعله يمينه . ذكاء يتداعى أمامه الذكاء نفسه ، سخره للموبقات وللإيقاع بكل من يعترض طريقه ، ناجح جدا في عمله غير الشريف في التخلص من خصومه ، حتى يكون هو اللاعب الوحيد فوق المسرح . لا يتورع عن تقديم المعلومات المزيفة إذا اقتضى الأمر ، يخشاه كل من يعمل تحت رئاسته لسببين ، أولهما أنهم يعلمون أن بيده أن يفتح أمامهم صنبور الثروة عن آخره ، وبيده أن يجففه لآخر قطرة ، والسبب الأهم أنه يمكن أن يدبر المصائب كما لو كان يحتسي كأساً من الماء المثلج . الجوكر شخصية من الظلم جدا لو سقط تدوينها في مزبلة التاريخ ، وجد فيه حامد النجار أفضل من يصلح ليكون مديرا لمكتبه ، أهم واجباته القوادة وتدبير اللقاءات بين رئيسه ومن يقع اختياره عليهن من النساء ، يتبع في ذلك أحط الأساليب من الترغيب والترهيب وتلفيق التهم  إذا لزم الأمر ، لإجبارهن على الرضوخ للرغبات المنحطة ، دون مراعاة إن كان وقع الاختيار على  صويحبات الرذيلة أو الفضيلة أو متزوجات . الشرف بالنسبة لحامد شيء ممسوخ لا يجب أن يعتد به كثيرا ، معاناة من المشهد الذي لا يفارق خياله أبدا ، انطبع في ذهنه ولصقت صورة أمه في أحضان عشاقها وفوق فراش والده الذي كان يظن فيها الزوجة الوفية المخلصة ، بالرغم من أنه هو نفسه لم يكن مخلصا لها. فاحت رائحة سلوكه الخسيس إلى أن زكمت أنفها ، فاتخذت من فراش الزوجية ساحة للإنتقام ، مستغلة الأوقات التي يتغيبها عن المنزل سواء في العمل أو مع نزواته . في  أسرة منحطة الأخلاق نبت حامد النجار ونبتت في داخله الرذيلة منذ نعومة أظافره . استطاع عن طريق نفوذ أبيه أن يصيب من التعليم ما يؤهله لارتقاء المناصب هذا إلى جانب ذكاء فطري شرير ، حتى وصل لمنصب خطير ، من خلاله استطاع أن يحقق ما يسر له الانتقام من النساء ، يرى فيهن جميعا صورة أمه وشرفها المغطى لقمته بالأوحال . قال عنه أحد أصدقائه المقربين كان على شاكلته  ، أن الشيطان لو أراد الانجاب فأنه سيعجز أن يحقق في خلفته بشاعة حامد النجار ، ووضاعة الجوكر مدير مكتبه . أسم الجوكر أطلقته عليه شلة الفساد التي تحيط دائما بحامد النجار ، تنافقه وتتكسب من ورائه محتمية بنفوذه ، أسمه الحقيقي عوض السايس ، اعترض أولا على اسم الجوكر ، لكنه تقبله عن طيب خاطر ، عندما خير في جلسة من جلسات الكيف بين هذا الاسم وبين أسم البهلوان ، فرأى أن الأول أفضل . من يراه في مكتبه وقد اكتسى وجهه بالجدية بأنه خُلق للإدارة فعلا . دائم السفر لكل البلاد التي يذهب إليها رئيسه لزوم منصبه ، ليكون كل شيء على ما يرام حينما يصل الرئيس ، يسبقه ليعد لزوم السهرات والنساء حتى لو من بنات الليل ، اختار طريق العزوبية كرئيسه ، مكتفيا بفتات النساء التي تتساقط من فراش حامد النجار بعد أن يملهن ويبحث عن متعة جديدة . لم ينظر إليه حامد على أنه ينتمي إلى جنس الرجال وقد قبل على نفسه أن يقف على باب مخدعه كخادم دعارة ، يحفظ عن ظهر قلب أن أي خطأ في واجباته ، قد يكون ثمنه المعتقل أو الاختفاء نهائيا ، هذا الشعور كان المهماز الذي يجعل قفزاته دائما تفوق قفزات الجوكر .

**********

قالت نادية بعد أن قادت سليم إلى مكان هاديء :

 _سليم ، أنت غير محتاج لتحدثني عن حبك ، لأني واثقة منه ، كنت أحس بك وأنت تذوب شوقا ، لمجرد شبح ابتسامة تراها فوق شفتي .

قال سليم معبراً عن شعور حقيقي نحوها :

_ اسمحي لي يا ناديه أن أقول لك أنك لم تجيدي التعبير .. بسمة شفتيك كانت بالنسبة لي أكثر من هذا بكثير .. كنت أتطلع إليها كباب سينفتح أمامي لألج منه إلى الحياة ، إذا أُغلق دوني لن أتورع عن صلب نفسي خلفه .

قالت نادية دون تكلف :

_ رأيت في عينيك أكثر من هذا يا سليم ، لا تظن أني كنت غافلة عنك ، كم شعرت بالحزن في المرة السابقة وأنا أرى الموت في عينيك عندما كنت في السيارة مع زميلي ، هو بالفعل بالنسبة لي لا يخرج عن دائرة الزمالة . شعرت وقتها بالأسف ، لأني لم أشاهدك إلا بعد أن بدأت السيارة في التحرك ، بادرتك بالابتسامة اليوم حتى أشجعك على أن تلُقي بترددك وأوهامك، التي صورت لك بأنني قادرة على صدك .

قال سليم وكلماته تتراقص على شفتيه :

_ هل تسمحين لي بأن أسكب هذا الكأس من الماء المثلج فوق رأسي حتى أتأكد أنني لست بحالم ..

_ لست بحاجة لأن تبلل نفسك .. أنظر في عيني فقط لكي تعلم أني جادة في كل كلمة نطقت بها شفتاي .

_ لا أستطيع أن أغامر وأحدق في عينيك .. فقد لا أجد من ينتشلني .

_ كنت متأكدة بأن عقدة لسانك ستنحل عندما تزول عنك الرهبة وتسمعني كلمات جميلة .. قرأتها في وجهك دون أن تدري ، وأنت تقف أمام دكانك تنتظر ذهابي وأيابي .

_ لم أكن أنا المنتظر الوحيد .. كل رجال الشارع الضيق كانوا يترقبون مرورك كل يوم .. كنت أتمني أن تواتني الشجاعة وألقي بثيابي فوق أوجههم حتى لا تنهبك عيونهم .

_ لا تساوى نفسك بجهالة السفلة ، نظراتك كنت أشعر بها كالنسيم الحاني فوق جسدي ، أما نظراتهم فكنت سهام سمومة ، تنفذ داخله فتتخضب ثيابي ببقع الدماء الحمراء .. ما يحيرني هو اختيارك لهذا المكان وأنا أرى في وجهك أنك بعيد كل البعد عنه.

_ كما تقولين أنا خريج الجامعة ، أسرتي لها مكانتها ، أسكن في حي راق .. ولكنى رفضت أن استغل نفوذ والدي في أن التحق بوظيفة وأتدرج بها ، فضلت العمل الحر ، لم يمارس والدي أي ضغوط نحوي ليثنيني عن عزمي ، كانت هذه طريقته في تربيتنا ، أوصاني أصحاب الخبرة بأن أفضل مكان لتجارة أشرطة الفيديو هو الأحياء الشعبية .. والآن أشعر أنني وفقت تماما في اختياري لهذا المكان بعد أن ساقني إلي طريقك .

سألت ناديه بكلمات جادة :

_ بعد أن جمعنا الشارع الضيق ، وصرنا الآن معا ، هل يمكنني أن أعرف بأي طريقة تفكر في ؟

_ ليس في مخيلتي سوى صورة واحدة لك .. أقف دائما أمام واجهات المحال التي تعرض فساتين الزفاف ، وأتخيل وجهك الرائع يقفز فوقها ليضفي عليها جمال أميرة الكون.

قالت نادية بمرارة :

_ ألم تستمع لما يشاع عني وعن أسرتي من ألسنة السوء التي كانت حولك ؟

_ مهما قيل فلن يهمني شيء ، ففستان الزفاف لا يتسع سوى للعروس فقط، وأنتِ في نظري أطهر من الملائكة .

_ لا تكن متعجلا في الحكم ..فأنا لست ممن يهربن من الواقع والتستر خلف الأكاذيب .. فلا بد أن تستمع لكل شيء من فمي أنا .. حتى يكون ارتباطنا على أرض صلبة .

قال عادل معاتباً :

_ لا أريد أن أستمع لأي شيء .. يكفيني أن تكوني لي .

_ أن لم تستمع .. فسيكون هذا هو اللقاء الأخير بيني وبينك .. وأنا مصرة على ذلك .

_ سأستمع إرضاء لخاطرك .. ولكن ما ستقولينه سأنساه فور انتهائك من سرده .
_ ليكن .. استمع وافعل ما يحلو لك بعد ذلك .

 _ هل ستسمحين لي أن أفعل ما يحلو لي حقا ؟ حتى إذا قفزت فوق المناضد ورفعت صوتي بأنك اللصة التي سرقت قلبي وابتلعته ، حتى لا أستطيع العيش إلا من خلال أنفاسها .

ضحكت ناديه ولم تعلق ، سارت لهدفها مباشرة ، انتقلت ملامح وجهها من الابتسام لتقطيبة تعلن عن ضيق حقيقي :

_ ما سمعته من إشاعات حول أسرتي لا يخلو من الصحة يا سليم ، إن لم يكن كله صحيح ، أبي لم يكن سوى نقاش وثروته التي كونها ووصلت به لمصاف الأثرياء لم تأت من عرقه كلها ، كان لأمي دورا فيها ، إن لم تكن أمي قد لعبت الدور كله ، أرفض أن أصدق عن أمي أي سوء ، ولكن رفضي لن يغير من الحقيقة الفجة .. لم يكن بيدي أن أرفض أسلوبهم ، لكن على الأقل رفضته بالنسبة لنفسي . أنا صادقة إذا قلت لك أن هذه المرة الأولي التي أجالس فيها أحد ، لم أفعل هذا إلا لأني قرأت أفكارك من خلال عينيك ، لم أر فيها سوى طيبة ممتزجة ببساطة واحترام عز على كثير من شباب هذه الأيام .. ما أشاعه عني أصحاب هذا الشارع الضيق ليس به أي شيء من الحقيقة .. سمعت هذا العطوة صاحب الجزارة ، يلقي خلفي بجملته السفيهة ذات مرة قائلا .. "ضع القدرة على فمها تطلع البنت لأمها" . أعلم ما يعنيه هذا الممزوج برائحة البهائم ، لم أعر أحدا منهم أي اهتمام ، سواء لنظراتهم الوقحة أو تعليقاتهم الأوقح ، هذا الصنف من الرجال ، يمكن لأي امرأة أن تنتعله كحذاء عند أول إشارة من إصبعها . عدا هذا لم يبق سوى أن أخبرك عن أخوتي الثلاث ، "خالد" الضابط الذي لا يشغله في الحياة سوى مظهره وأنانيته ، وجريه الدائب خلف النساء والفتيات . "علي" رفض أن يكمل تعليمه وانساق خلف أصدقاء السوء والفساد . "رشاد" فلتة القدر .. شاب لم تسلك قدماه سوى طريق العلم والدين ، عندما أراه في منزلنا أشعر أنه زهرة نبتت في غير موطنها ، أقرب واحد لأفكاري وقلبي ، هذه أسرة جاد بك ، وهذا ما أردت أن أخبرك به حتى تتلمس طريقك جيدا . بالنسبة لي كما ترى طالبة في السنة النهائية بمعهد السينما ، قمت ببعض أدوار الإعلانات ، رفضت الكثير منها لأن النية منها كانت تفوق مجرد الإعلان ، وأنا قررت أن أكون نجمة محترمة ، قبل أن أكون نجمة مشهورة حتى لو كان الطريق شاقا وطويلا .

قال سليم وهو غير مصدق أنه أمام بطلة أيامه ولياليه الساهرة :

_ لن أنظر في كل ما سمعته سوى لإطار يحتوي على صورتك أنت .. أنت فقط .. سأبذل كل ما في وسعي لأتسلل داخل هذا الإطار بجانبك .. هذه سمائي التي حلقت فيها منذ أول مرة غزوتِ فيها دنياي وما حولها .

قالت ناديه وهي تضحك ضحكتها الصافية :

_ إذاً يمكنك الآن أن تقفز فوق المناضد وتقول بأعلى صوتك ، لقد قررنا أن يبتلع كل واحد قلب رفيقه لنعيش سويا من خلال أنفاس بعضنا .

 

وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة ؛

 

*********************

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

**********************